رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عن الأدب والسياسة الآن


فى وقت ما قبل ثورة يوليو ١٩٥٢، كانت قضية المجتمع المصرى الرئيسية هى الصراع مع الإقطاع، حيث تحوز قلة من الأفراد لا تتجاوز ٥٪ على ثلثى الأرض الزراعية، وأكثر من ٩٠٪ على الثلث الباقى. حينذاك نشرت جريدة المصرى الوفدية عام ١٩٥٣ رواية عبدالرحمن الشرقاوى «الأرض»، فبلورت أمام المجتمع قضيته المركزية الأولى، وبتلك الرواية كان الشرقاوى، الروائى، يشتبك بالسياسة مباشرة، لأنه يقوم بإدانة سياسة النظام الملكى تجاه الفلاحين.
وفى عام ١٩٦٦ وضع نجيب محفوظ يده على قضية المجتمع الأساسية ألا وهى القلق تجاه مصير ثورة يوليو، فنشر فى نهاية عام ١٩٦٦ روايته «ميرامار» كحلقات فى جريدة الأهرام، ثم كتابًا بعد ذلك بعام. فى الرواية يضع محفوظ يده على قلب السؤال المركزى: لمن تكون مصر؟ للوفدى القديم الليبرالى؟ للشيوعى؟ للإقطاعى؟ للعامل البسيط؟. وكان هذا القلق مثل حدس بالنكسة التى تمت. وبذلك كان محفوظ الروائى يشتبك بالسياسة مباشرة حين طرح كل التساؤلات المشبعة بالخوف على مصير ومستقبل «زهرة» التى تجسد مصر.
فى الحالتين وضع الشرقاوى ومحفوظ يدهما على القضية المركزية التى تؤرق المجتمع قبل الثورة وبعدها، القضية التى لا تعنى فردًا أو فئة أو شريحة، بل مصر بأكملها. الآن حين تفتش بعينيك فى معظم الروايات التى تصدر حاليًا، ومنذ عشر سنوات، ستجد أن معظم الكُتّاب يرجعون إلى شخصيات وأحداث تاريخية من الماضى، وليس لكى يفسروا بها الواقع الحاضر، بل ليفسروا بها الماضى مرة أخرى، الأمثلة وأسماء الروايات والأدباء، كثيرة، المؤكد أنه أمسى من الصعوبة الآن، أو الاستحالة أن ترى رواية تحدق بالواقع فى عينيه مباشرة، بقوة، وتعرض لجوهر التحولات الاجتماعية والثقافية الراهنة، مع أن الحقيقة كما يقول شكسبير تعشق الصراحة.
يقول الكثيرون فى تبرير ذلك إنه لا ينبغى على الكاتب أن ينغمس فى السياسة، وإن عليه أن يظل «مبدعًا يحتفى بالجانب الجمالى»، لكن ما هذه السياسة التى قد ينبغى للأديب أو بالعكس لا ينبغى عليه أن ينغمس فيها؟. السياسة بشكل عام هى مجال للنشاط الإنسانى مرتبط بالعلاقات بين الطبقات والفئات والدول والأمم. وقد يبدأ الأديب علاقته بذلك المجال بالإعلان الصريح عن موقفه من أزمة أو أخرى، أو من أحداث الصراع الاجتماعى، وصولًا إلى انخراطه فى حزب أو نشاط برلمانى. ولا يستطيع أحد أن يطالب الأديب بأن يكون سياسيًا بذلك المعنى المباشر، ذلك أن كل أديب حالة قائمة بذاتها، له أن يقتحم المجال السياسى المباشر كما فعل يوسف إدريس وعبدالرحمن الشرقاوى وغيرهما، وله ألا يقترب منه كما فعل نجيب محفوظ. إلا أن الكاتب سواء ابتعد أو اقترب من السياسة هو منغمس فيها، لأسباب فنية فى الأساس، ذلك أن الروائى أو القاص يتعامل مع وعى الناس ومشاعرهم ومواقفهم والعلاقات التى تربطهم وكل ذلك، أى كل مادة الأدب، ينشأ فى ظروف محددة اجتماعية واقتصادية وسياسية.
إذن يتعامل الكاتب فى النهاية مع ثمرة وضع سياسى وتاريخى، وتعكس أعماله الأدبية - شاء أم أبى - جانبًا أو جوانب من عمليات الصراع الفكرى والاجتماعى والسياسى، وبهذا المعنى فإن كل أديب أو روائى، هو كاتب سياسى، لأن مادة أعماله هى البشر ومشاعرهم ومعتقداتهم، ولا يعكس الأديب كل ذلك دون رؤية سياسية ما، ومجرد تعاطف الفنان مع فقراء فى إحدى القصص يجسد رؤية سياسية، وبعبارة أخرى يجسد اشتغالًا بالسياسة، لكن الرؤية السياسية الملازمة للأدب شىء، والاشتغال بالسياسة بصورة مباشرة شىء آخر.
وأديب عظيم مثل نجيب محفوظ لم يمارس قط عملًا سياسيًا بالمعنى المباشر، لكن رؤاه السياسية كانت الأشد تأثيرًا حين صوّر أزمة الديمقراطية فى المجتمع الناصرى، بل إن رواياته كلها تنضح بالموقف السياسى، وأنت لا تستطيع أن تفصل فى أعماله بين الروائى والسياسى، وما من أديب كبير إلا وكان لديه تصور سياسى للشكل المثالى للمجتمع والعالم وثيق الصلة برؤيته الفلسفية. هكذا كان تولستوى وديكنز وكوتزى وساراماجو وغيرهم، وفى هذا السياق تبقى عبارة بريخت مثل البوصلة تشير إلى الحقيقة: «إذا لم تهتم كلماتى بالناس.. فلماذا ينبغى على الناس أن يهتموا بكلماتى؟».