رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رهبان سبعة زرعوا الصحراء


تبدأ القصة منذ عام 1943 عندما توجه مجموعة من الشباب الجامعى بالإسكندرية إلى الراهب مينا البراموسى المتوحد بكنيسة مارمينا بمصر القديمة لإستشارته فى تأسيس جمعية بالإسكندرية تهتم بالثقافة القبطية. فأوحى إليهم باسم "جمعية مارمينا للدراسات القبطية". فقالوا له: (لا يسمع أحد عن القديس مينا)!! فقال لهم: (كل فرد منكم يُنجب أبنًا يسميه مينا، وبذلك ينتشر اسم مينا بين الأقباط)، وفعلًا أنجب ثلاثة من هؤلاء الأعضاء أبناء وتم أطلاق اسم "مينا" على الأبن البكر، وكانوا مينا بانوب حبشى، مينا جورج غالى قلدس، مينا بديع عبد الملك (كاتب هذا المقال). وفعلًا فى شهر نوفمبر 1945 تأسست جمعية مارمينا بالإسكندرية فى تذكار إستشهاد القديس مينا.
حدث بعد ذلك أن توجه الراهب مينا البراموسى المتوحد إلى المتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية لمقابلة مفتش الآثار وهو الأستاذ بانوب حبشى (1913 – 1956) ومعه المتخصص فى الرسم الفرعونى الأستاذ بديع عبد الملك (1908 – 1979) لإمكانية الحصول على موافقة للإقامة بالمنطقة الأثرية بمريوط محافظة منه على المنطقة بسبب تطلعات بعض الجاليات الأجنبية (الكنيسة اليونانية) من تملك المنطقة، إذ كان محُب بصدق لكنيسته. وتمت مخاطبة د. طوجو مينا (1906 – 1949) مدير المتحف القبطى بالقاهرة للسعى فى هذا الموضوع.
لكن حدث فى نوفمبر 1956 – بعد رحيل البابا يوساب الثانى البطريرك 115 – أن أختار الله من الآباء المطارنة الأنبا أثناسيوس مطران بنى سويف ليكون قائمقام البطريرك. ونظرًا لحزمه وقوة شخصيته وشجاعته وأمانته الكنسية فقد تم أستبعاد الأساقفة من الإنتخابات، وأنتهت الإنتخابات البابوية فى 19 إبريل 1959 بأختيار الله الراهب مينا البراموسى المتوحد – طبقًا للقوانين الكنسية التى أستقرت بالكنيسة منذ القرن الرابع الميلادى – وتمت سيامته بطريركًا باسم البابا كيرلس السادس فى 10 مايو 1959. كان الراهب مينا البراموسى المتوحد مهتمًا بإعادة إحياء منطقة القديس مينا بمريوط (يطلق عليها عرب الصحراء اسم "بومنا") التى كانت مدينة رخامية مزدهرة بالرهبان والعمارة القبطية فى القرن الرابع الميلادى وظلت موضع أهتمام العالم المسيحى كله حتى القرن 11 الميلادى حينما أندثرت نتيجة هجوم البربر وقُطاع الطرق، وظلت فى طى النسيان حتى عام 1905 حينما تمكن عالمان أثاريان ألمانيان وهما "كارل- ماريا كاوفمان" وصديقه "فولز" من أكتشافها، وكانت البعثات الألمانية دائمة العمل بالمنطقة.
فور أن جلس البابا كيرلس السادس على الكرسى البابوى، بدأ بهمة ونشاط فى إزاحة ستار النسيان عن تلك البقعة المقدسة. فبعد مضى ستة أسابيع بدأ بزيارة المنطقة فى 22 يونيو 1959 حيث أقام قداسًا فى قلب صحراء مريوط بالكنيسة الأثرية التى أقامها البابا أثناسيوس البطريرك العشرين فى القرن الرابع الميلادى تحت سرادق كبير أهتمت جمعية مارمينا العجايبى للدراسات القبطية بالإسكندرية بإعداده خصيصًا لهذا اليوم. وتشاء الظروف أن يكون كاتب هذا المقال أن يكون أحد الذين شاهدوا هذا الحدث التاريخى وكنت أبلغ من العمر 9 سنوات بصحبة والدى أحد خبراء الآثار المصرية. ثم فى يوم الجمعة 27 نوفمبر 1959 توجه البابا كيرلس السادس – وعلى مسافة 3 كيلومترات من المنطقة الأثرية – وضع حجر أساس الدير الحديث، وذلك فى قطعة أرض كان البابا كيرلس قد أشتراها من هيئة تعمير الصحارى وتبلغ مساحتها 50 فدانًا ثم أضاف اليها بعد ذلك مساحة 100 فدان أخرى. ومنذ ذلك الوقت شهدت المنطقة نهضة رهبانية وزراعية جديدة أهتم بها البابا كيرلس السادس بنفسه. وبذلك أستطاع البابا البطريرك أن يضع أمام الشعب قطعة من التاريخ هى مصدر فخار قومى وروحى، فهرع المصريون إلى المنطقة تبركًا، وأتى اليها الأجانب من بعيد ليشاهدوا ما تفعله قوة الأرادة وحب البناء. كنا نقف وننظر إلى الأطلال الباقية منذ القرن الرابع الميلادى ونحن لا نكاد نصدق أن الحياة ستدب فى يوم من الأيام فى هذه المنطقة، لكنها كانت عزيمة بطريرك عظيم مسنودة بعجائب قديس عجايبى. وتقديرًا من هيئة تعمير الصحارى للبابا البطريرك فقد أعدت 12 لوحة أسترشادية تحمل اسم دير القديس مينا توضع على طول الطريق من محطة قطار بهيج حتى الدير.
لكى تبدأ الحياة الرهبانية بالدير أختار البابا كيرلس السادس ثلاثة من رهبان دير السريان – كان وقتها الدير الوحيد العامر بالرهبان – ليكونوا نواة الرهبنة بالدير الحديث. أول شاب حضر للرهبنة بالدير كان من صعيد مصر وكان يبلغ من العمر 19 عامًا وفى عام 1961 أقامه البابا كيرلس السادس راهبًا باسم الراهب عازر آفا مينا، ثم فى سبتمبر 1964 أقام البابا كيرلس ثلاثة رهبان آخرين. وتوالى بعد ذلك سيامة آباء رهبان للدير. أرتفعت مبانى دير القديس مينا على مساحة قدرها 15 فدانًا من الـ 50 فدانًا فى خلال سنتين (1959 – 1961). بدأ الرهبان السبعة بزراعة الصحراء، ونظرًا لندرة المياه فقد أكتفوا بزراعة الشعير والزيتون أعتمادًا على مياه الأمطار، فكانوا فى موسم الحصاد يقومون بجنى المحصول ويحضر مجموعة من الأشخاص لشراءه من الدير. ولتوفير أحتياجهم من المياه، كان متوافر لديهم عربة صغيرة يقوم بسحبها حيوان صغير وبها صهريج صغير يتم ملئه بالمياه من قرية بهيج التى تبعد عن الدير 12 كيلومتر. ونظرًا لبُعد المسافة فقد أحضر بعض المهتمين بإحتياجات الدير جرارًا ليقود صهريج كبير أسطوانى الشكل للمياه، كان يقوده الراهب عازر مرتين فى الأسبوع لإحضار المياه من قرية بهيج.
أخذت الحياة الرهبانية تنمو بأطراد بالدير، تحت رعاية وأشراف البابا كيرلس السادس الذى كان يقضى أيامًا وأسابيعًا بالدير فى صلاة وخلوة روحية وفى نفس الوقت يشرف على تعمير الدير رهبانيًا وعمرانيًا، فكنا نراه يتوجه لزيارة الرهبان وهم يحصدون الشعير والزيتون. كما أهتم بتوطيد العلاقة بين رهبان الدير ومجموعة البدو المقيمين بالخيام المحيطة بالدير. فكان البدو يحضرون إلى الدير للعلاج أو للحصول على أحتياجاتهم من الأدوية فى الأمراض الطارئة. تحول الدير إلى نموذج طيب للتعايش الإيجابى بين أبناء الشعب الواحد. حتى أن البدو كانوا يستبشرون خيرًا عند وجود البابا كيرلس فى وسطهم بالدير. كان حزنهم عظيمًا جدًا عندما علموا بخبر أنتقاله فى يوم الثلاثاء 9 مارس 1971. وعندما علموا أنه سيتم نقل جثمانه فى 22 نوفمبر 1972 أصروا أن يحملوا الجثمان على أكتافهم فى قلب الصحراء وأستمروا فى حمله حتى دخلوا به كنيسة الدير، فى مشهد يليق بأنتقال أب حقيقى.
أن قصة دير القديس مينا العجايبى هى قصة حُب بين البطريرك الوقور البابا كيرلس السادس وبين أبنائه المحبين الذين أرتبطوا أرتباطًا وثيقًا بكنيستهم ووطنهم. قصة حُب بين رهبان الدير وبدو الصحراء الذين وجدوا فى الدير ملاذهم للحصول على أحتياجاتهم فى حُب ومودة. قصة حُب بين البابا الوقور وجمعية مارمينا العجايبى بالإسكندرية الذى كلف أحد أعضائها وهو الأستاذ بديع عبدالملك بكتابة اللوحة التذكارية التى وُضعت على حجر الأساس ومازالت اللوحة التذكارية موجودة بالدير تشهد على روعة الكتابة والأتقان فى الأخراج القائم على الحُب. كان هذا الزمن هو زمن البساطة والصراحة والحُب بعيدًا عن الفلسفات التى تفسد العلاقات الإنسانية. تحية لروح البطريرك العظيم البابا كيرلس السادس، ولأرواح آباء رهبان الدير الذين رحلوا بعد أن أكملوا جهادهم المبارك، ولأرواح أعضاء جمعية مارمينا للدراسات القبطية بالإسكندرية من المؤسسين الذين رحلوا بعد خدمة ناجحة.