رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

دولة الجبنة السويسرية



تتميز قطعة الجبن السويسرية، بوجود الثقوب أو الفقاعات المعروفة باسم العيون، ولهذا فقد أعجبنى كثيرًا وصف الرئيس الفلسطينى محمود عباس، أمام المؤتمر الطارئ لوزراء الخارجية العرب بالجامعة العربية، الدولة الفلسطينية التى اقترحتها خطة السلام الأمريكية الإسرائيلية، التى عرفت إعلاميًا بصفقة القرن بأنها دولة تشبه قطعة الجبن السويسرية، مليئة بالفقاعات.. لأنها فى الحقيقة ليست دولة بالمعنى المتعارف عليه فى علوم السياسة والقانون الدولى، فهى- كما قال- بلا مساحة متصلة، وبلا سيادة ومنزوعة السلاح وبلا قوات أمنية، وطبعًا هى بلا مطار أو ميناء، لأن قوات الاحتلال تحيطها من كل جانب.
هى مسخرة سياسية بكل معانى الكلمة، تعكس حالة الاستهتار التى ينظر بها الأمريكيون للعرب جميعًا وليس للفلسطينيين وحدهم، ولهذا فهم يعتقدون أن العرب والفلسطينيين لن يرفضوا «شبه دولة» على ١١ بالمائة فقط من مساحة فلسطين التاريخية، مع تقسيم زمانى ومكانى للمسجد الأقصى يسمح بتقسيم أيام الصلاة فيه بين المسلمين واليهود، ولمَ لا؟! ألم يفعلوها من قبل فى الحرم الإبراهيمى فى مدينة الخليل، بعد المذبحة التى قام بها السفاح باروخ جولدشتاين فى تسعينيات القرن الماضى.. وأصبح الأمر عاديًا الآن؟
لقد كان مؤتمر البيت الأبيض لإعلان صفقة أو «مأساة القرن»، بمثابة إعلان لوفاة القضية الفلسطينية من جانب واحد، وهو جانب القتلة الذين لم يكتفوا بالقتل بل جاءوا يقسمون تركة «المرحوم» الذى قتلوه من دون رحمة، وهو فى الحقيقة لم يقاوم القتلة كثيرًا، لأنه- رحمه الله- كان مشغولًا بنفسه، أو منكفئًا عليها، يحارب طواحين الهواء ويتجاهل أعداءه الحقيقيين الذين لم يجدوا فى النهاية أى حرج فى أن يسددوا إليه الطعنة الأخيرة جهارًا نهارًا، فمن الذى يستطيع أن يحاكمهم فى عالم بلا قضاة؟
وللحقيقة والتاريخ فإن هذه ليست أول شهادة وفاة عربية يعلنها الرئيس ترامب، فقد كتب منذ أشهر قليلة، شهادة وفاة الجولان وضمها لحبيبة القلب إسرائيل، وما زالت قواته تسهم بكل همة وحماس مع القوات الروسية والتركية والإيرانية فى التهام ما تبقى من الوجبة السورية الدسمة، وهم فى هذه الحالة يقسمون التركة السورية قبل الإعلان الرسمى للوفاة.. فهل هناك أكثر من هذا بؤس؟!
‏‎نعم هناك أكثر وأكثر.. فى العراق التى قتلها الرئيس جورج بوش الابن، بعد غزوه لها فى العام ٢٠٠٣، ومن يومها ما زالت تركة «المرحوم» تملأ الخزائن الأمريكية والإيرانية، رغم أن أولاده يتضورون جوعًا، وقد خرجوا يصرخون أخيرًا فى الساحات وفى ميادين بغداد والبصرة، بعد ١٧ عامًا من الوفاة الحزينة، وتلك مأساة أكبر.. أن يموت وطنك دون أن تدرك مأساتك إلا بعد عقدين من الزمان، انشغلت خلالهما بمواكب عزاء لحادث قتل غادر وقع منذ ١٤ قرنًا من الزمان.. يا للعبقرية العربية.
ورغم أننى لست من هواة جلد الذات، إلا أننى أنتظر مع ملايين من العرب، ظهور ترامب أو من يأتى بعده لإعلان وفاة بلد عربى آخر، ولا نعرف بمن سيبدأون، باليمن أو ليبيا أو لبنان؟
أعترف بأن صراحة الرئيس محمود عباس أمام المؤتمر الطارئ لوزراء الخارجية العرب أعجبتنى، وتأصيله التاريخى الذى أكد فيه أن وعد بلفور كان أمريكيًا وليس بريطانيًا فقط، وأن الأمريكيين إذا دخلوا مفاوضات أفسدوها، حتى تصبح لصالح إسرائيل وتحقق لها أكثر مما تحلم به، ولكن لم يعجبنى أيضًا حديثه عن التنازلات الفلسطينية الضخمة بلا أى مقابل، وأولها الرضا بدولة فى الضفة وغزة على مساحة ٢٢ بالمائة فقط من مساحة فلسطين التاريخية، وتبرعه خلال آخر مباحثات مع ترامب، بالقول بأنه يريد دولة فلسطينية منزوعة السلاح، وهذه هى النتيجة، شبه دولة مثل قطعة الجبن السويسرية.
وإذا كنت أنتقد موقف وتصريحات الرئيس أبومازن، فإننى أتساءل ومعى ملايين ماذا عن موقف الحمساويين من صفقة القرن؟! لماذا ابتلعوا ألسنتهم؟!
غريب أن الحمساويين الذين انشغلوا لسنوات طويلة بتصدير الموت إلينا عبر الأنفاق اختفوا تمامًا، ودفنوا رءوسهم فى الرمال وكأن الأمر لا يعنيهم، مع أنهم «شركاء أصليون» فى جريمة قتل القضية الفلسطينية، ودورهم لا يقل بشاعة عما قام به كل من ترامب ونتنياهو وكوشنر، ولا أحد يعرف أين ذهبت كتائب القسام، المعروفة نضاليًا بكتائب «ابتسام»، ولا أين ذهب مناضلوها الذين تجمعوا فى ساحات الأقصى مرتين خلال العام الماضى ليقيموا صلاة الغائب، مرة على روح الرئيس الإخوانى محمد مرسى، وأخرى على أرواح المجرمين الذين قتلوا النائب العام هشام بركات، ألا يستحق الوطن أن تتجمعوا من أجله فى ساحات الأقصى، لتصلّوا عليه صلاة الجنازة، وأجرها- لو تعلمون- عظيم؟!
‏‎لا أعرف أين توارى أصحاب اللحى الذين كانوا يهتفون، حتى تنتفخ أوداجهم مرددين «ع القدس رايحين.. شهداء بالملايين»، ما هذا الصمت المريب، هل لفظتم أنفاسكم الأخيرة؟
إذا كانوا يعرضون اليوم تقاسمًا زمانيًا ومكانيًا للمسجد الأقصى، الذى ورد اسمه فى «الصفقة» باسم الأقصى وجبل الهيكل، فقد يكون الهدف لديهم أسوأ بكثير.
ولا أعرف كيف سنواجه رب العالمين، ولا كيف سننظر فى أعين أبنائنا، إذا رأينا غدًا إعلانًا فى الصحف الأمريكية، عن طرح مناقصة عالمية تحت اسم «براق»، وهو «تطوير مدينة الرب أورشليم»، وإذا قرأنا فى التفاصيل أن المناقصة ستتضمن هدم المسجد الأقصى، وإقامة هيكل سليمان المزعوم مكانه.. من الذى سيمنعهم من طرح هذه المناقصة؟ خاصة إذا كتب فى نهاية الإعلان «المزايدون يمتنعون»، بمعنى أن المزايدين على القضية محظور عليهم دخول المناقصة؟.