رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مؤرخ تركى يستحق التكريم



الثلاثاء المقبل، تنتهى فعاليات الدورة رقم ٥١ لمعرض القاهرة الدولى للكتاب، ونعتقد أن ختامها سيكون مسكًا لو تمكن الدكتور هيثم الحاج على، رئيس الهيئة العامة المصرية للكتاب، من دعوة المؤرخ التركى تانر أكجم، لتكريمه فى حفل الختام. ولو حال ضيق الوقت دون ذلك، نتمنى أن تقوم الهيئة، المجلس الأعلى للثقافة، أو وزارة الثقافة بتدارك الأمر فى ٢٤ أبريل المقبل.
هذا الرجل يستحق التكريم، مصريًا وعربيًا. كما نرى ضرورة إصدار طبعة مصرية، شعبية، من كتابه المهم «أوامر بالقتل: برقيات طلعت باشا والإبادة الأرمنية»، الذى سبقتنا «دار الفارابى» اللبنانية، فى أكتوبر الماضى، بإصدار ترجمته العربية، واحتفت فرنسا، منذ أيام، بصدور ترجمته الفرنسية، ووصفه الرئيس الفرنسى، إيمانويل ماكرون، بأنه «عمل تاريخى يخدم الذاكرة والعدالة» وأخرج «ما أراد البعض إغراقه فى النسيان» وأتاح للشعب التركى أن «يكون قادرًا على اتخاذ قراراته كشعب حر»، لأنه «من الصعب بناء تاريخ مجيد على الأكاذيب».
مؤرخون وأكاديميون كثيرون أكدوا أن الجرائم التى ارتكبتها السلطات العثمانية ضد الأرمن تستوفى التعريف القانونى لكلمة «إبادة». لكن أكجم، Taner Akçam، أثبت ذلك بأدلة قاطعة. وعليه، قام المجلس التنسيقى للمنظمات الأرمنية فى فرنسا، مساء الأربعاء الماضى، بتكريمه ومنحه «ميدالية الشجاعة». وهو التكريم، الذى أشاد به الرئيس الفرنسى، ووصف كتاب «أوامر بالقتل» بأنه يلقى بظلاله على سياسة تركيا الحالية و«استراتيجيتها التوسعية فى شرق المتوسط»، ومساعيها «لاستعادة مجد غابر قائم على أوهام».
تلك هى المرة الثالثة، منذ انتخابه سنة ٢٠١٧، التى يشارك فيها الرئيس الفرنسى فى العشاء الرسمى لـ«المجلس التنسيقى للمنظمات الأرمنية». وكان ماكرون قد أعلن لدى مشاركته العام الماضى، عن تخصيص يوم ٢٤ أبريل من كل عام ليكون «اليوم الوطنى لإحياء ذكرى مجزرة الأرمن». وبحضور عدد من الوزراء والمسئولين والسياسيين والمفكرين والأدباء والفنانين وممثلى الجالية الأرمنية بفرنسا، ألقى الرئيس الفرنسى خطابًا مطوّلًا، نشره الموقع الرسمى لقصر الإليزيه، الخميس، أشاد فيه بشجاعة وجرأة «تانر أكجم» فى دحض الرواية التركية الرسمية، وقيامه فى كتابه، استنادًا إلى وثائق وبرقيات رسمية تعود إلى زمن «المجزرة»، بتقديم براهين قاطعة تؤكد أن السلطات العثمانية هى التى خططت لها، وأمرت جنودها بارتكابها.
نحن أمام توثيق جديد لواحدة من جرائم السلطات العثمانية، قتلت خلالها، بدم بارد، أو بدمها البارد، أكثر من ١.٥ مليون أرمنى، وقامت بتهجير آخرين إلى مصر، سوريا، لبنان ودول أوروبية مختلفة، أبرزها فرنسا، التى قامت قواتها البحرية بواحدة من كبريات عمليات الإنقاذ، فى التاريخ. وأصدرت، منذ ١٩ سنة، فى عهد الرئيس الأسبق جاك شيراك، قانونًا يصف فيه ما قامت به السلطات العثمانية ضد الأرمن، بأنه «أولى مجازر» القرن العشرين. وفى عامى ٢٠١٢ و٢٠١٦، أصدرت فرنسا قانونًا يقضى بتجريم نفيها، يشبه ذلك القانون الخاص بتجريم نفى «المحرقة» اليهودية. غير أن المجلس الدستورى الفرنسى ألغى، فى المرتين، فقرة العقوبات، بزعم أنها تمثل تقييدًا لحرية التعبير.
إلى مصر، حملت السفن الفرنسية بعض الأرمن إلى ميناء بورسعيد، ومنه انطلقوا إلى مختلف المحافظات، لينصهروا فى نسيج شعبها، دون أن يتخلوا عن تاريخهم. وقد تفاجأ حين تعرف أن منهم نوبار باشا، أول رئيس وزراء لمصر، والموسيقار العظيم فؤاد الظاهرى، والجميلات الثلاث نيللى، لبلبة، وفيروز، وإيمان «ليز سركسيان»، ومنهم أيضًا «ألكسندر صاروخان»، نجم «أخبار اليوم» و«روزاليوسف»، ومبتكر شخصيات «إشاعة هانم»، و«المصرى أفندى».
جريمة إبادة الأتراك للأرمن تعترف بها ٣٠ دولة، كانت أحدثها الولايات المتحدة، مع أنها أصدرت سنة ١٩١٦ بيانًا مشتركًا مع الدول الكبرى، أدانت فيه تلك الجريمة. كما كانت ٤٩ ولاية أمريكية قد اعترفت بها، لكن تلك الاعترافات كانت على مستوى المجالس التشريعية لتلك الولايات، بينما كانت واشنطن والحكومة الفيدرالية والكونجرس تقوم بتأجيل الموضوع. لكن، أواخر أكتوبر الماضى، وافق مجلس النواب الأمريكى، بأغلبية ٤٠٥ أصوات مقابل رفض ١١ صوتًا فقط، على قرار يؤكد مسئولية السلطات العثمانية عن إحدى أكبر الفظائع فى القرن العشرين: القتل الممنهج لأكثر من مليون ونصف المليون من الرجال والنساء والأطفال الأرمن. ووصف القرار تلك الجرائم الهمجية بحق الشعب الأرمنى بأنها كانت إبادة جماعية.
أخيرًا، وعلى ذكر الولايات المتحدة، نشير إلى أن ٦٩ من الأكاديميين، الكتاب والمثقفين الأمريكيين، بينهم البريطانى الأمريكى برنارد لويس، صاحب الدور الأبرز فى تشكيل نظرة الغرب إلى العالم الإسلامى ومنطقة الشرق الأوسط، قاموا سنة ١٩٨٥ بالتوقيع على بيان طالبوا فيه الكونجرس الأمريكى بعدم الاعتراف بالمذابح العثمانية ضد الأرمن، لكن سرعان ما قام ٦٨ من الـ٦٩ بسحب توقيعاتهم، بعد ظهور وثائق كشفت عن حصول معظمهم على منح مالية (أى رشاوى) من الحكومة التركية!.