رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ستون عامًا على تأسيس دير القديس مينا


تقع منطقة مريوط قرب الإسكندرية على بُعد حوالى ٥٠ كيلومترًا منها، وهى تشغل مساحة لا تقل عن ٤٠ ألفًا من الأمتار المربعة بما عليها من بقايا الكنائس والأديرة وغيرها. وتتوسط هذه جميعًا الكنيسة الرئيسية الرائعة التى طالما انتزعت إعجاب المؤرخين القدماء فأطلقوا عليها اسم «أجمل وأعظم كنيسة مصرية»، «تحفة من روائع الفن المسيحى»، «مسرة لجميع شعوب مصر»، «الأكروبول المسيحى القديم»، وأيضًا «المدينة الرخامية».
أما الشهيد المصرى الذى تحمل المنطقة اسمه فهو القديس مينا الملقب بـ«العجايبى»، فهو من عائلة مصرية نبيلة، وأصل والديه أودوكسيس وأوفومية من المدينة المصرية الشهيرة المسماة باليونانية «نيقيوس» وتعنى بالمصرية «المنتصرون»، وتسمى أيضًا «إبشاتى» التى هى الآن زاوية رزين بمحافظة المنوفية باسم الحاكم المصرى الذى بنى ميدانًا فى وسطه مقصورة وقوّى أسوارها. وقد ولد الشهيد المصرى فى عام ٢٨٥م، وانخرط فى الجندية كأحد النبلاء وهو يبلغ من العمر ١٥ عامًا، وشغل وظيفة نائب للقائد العام للجيش بولاية «فريجيا» بآسيا الصغرى.
بعد أن صدر منشور دقلديانوس الذى يأمر كل إنسان بعبادة الأوثان، انسحب القديس مينا إلى الصحراء بغرض النسك والعبادة، وبعد أن قضى نحو خمس سنوات فى الرهبنة، غادر الصحراء إلى المدينة وجاهر بإيمانه المسيحى، واستشهد بقطع رأسه بحد السيف فى ٢٤ نوفمبر «١٥ هاتور» عام ٣٠٩م، وهو يبلغ من العمر ٢٤ عامًا. وبعد ذلك اصطحب بعض الجنود جسده المبارك وذهبوا به إلى منطقة مريوط وهناك تم دفنه. كانت نواة منطقة القديس مينا قبرًا صغيرًا ضم رفات الشهيد المصرى مينا. ففى بداية الأمر تم بناء مقصورة صغيرة فوق قبر القديس فى أوائل القرن الرابع الميلادى، ثم أقيمت الكنيسة الأولى فوق هذه المقصورة فى منتصف القرن الرابع. ولما ضاقت هذه الكنيسة بالأعداد الغفيرة المتزايدة من المصلين، شُيدت على امتدادها من الجهة الشرقية كنيسة فخمة رحبة فى أوائل القرن الخامس الميلادى بأمر من الإمبراطور أركاديوس «٣٩٥- ٤١٨م» الذى لم يدخر جهدًا فى زخرفتها وتزيينها بأثمن أنواع الرخام والفسيفساء والنقوش البديعة، وقد كان لهذه الكنيسة بهاء وروعة انتزعا إعجاب المؤرخين القدماء. بدأ بعد ذلك نجم المدينة فى الاختفاء، وأخذت عوامل التخريب والتدمير تتكالب عليها، يذكر لنا المؤرخ «أبوالمكارم» (١١٤٩- ١٢٠٩) أن كنيسة القديس مينا كانت لا تزال قائمة حتى القرن الثالث عشر الميلادى. بعد ذلك تكاثرت عليها عوامل التدمير وغمرتها رمال الصحراء، حتى دخلت المدينة العظيمة فى طى النسيان إلى أن أمكن اكتشافها على يد أفراد البعثة الألمانية الأثرية التى حضرت من فرانكفورت عام ١٩٠٥م بقيادة الأسقف الألمانى عالم الآثار «كارل ماريا كاوفمان».
مصر مليئة بالأبناء الصالحين الذين يحافظون على سلام الوطن، والنسيج الوطنى، والاستقرار الداخلى. ومن بين هؤلاء البابا كيرلس السادس «١٩٠٢- ١٩٧١» البطريرك ١١٦، الذى كان موضع إعجاب وتقدير المصريين جميعًا مسلمين وأقباطًا. فى فترة توحده بإحدى طواحين مصر القديمة علم أن إحدى الكنائس الغربية تود أن تضع يدها على منطقة القديس مينا الأثرية بمريوط. ففى عام ١٩٥٤ توجه إلى المتحف اليونانى الرومانى بالإسكندرية وتقابل مع مفتش الآثار الأستاذ بانوب حبشى «١٩١٣- ١٩٥٦»، وخبير رسم الخط الفرعونى الأستاذ بديع عبدالملك «١٩٠٨- ١٩٧٩» للتوسط لدى هيئة الآثار المصرية بالقاهرة ليقيم بالمنطقة الأثرية حتى يُثبت أنها ملك الكنيسة القبطية، فلم يكن يفرط فى أملاك الكنيسة كما يفعل غير الواعين، إذ كانت محبة الكنيسة تملأ قلبه. وبينما تفكر هيئة الآثار فى الأمر، اختاره الله فى ١٠ مايو ١٩٥٩- بدون أى تدخل بشرى- ليكون بطريركًا على الكنيسة باسم البابا كيرلس السادس، إذ كان بطريركًا طبقًا للمشيئة الإلهية. وفور جلوسه على الكرسى المرقسى أبدى اهتمامًا واضحًا بالتعاون مع جمعية مار مينا للدراسات القبطية بالإسكندرية لإحياء تلك المنطقة، وقد عاونه فى ذلك أعضاء جمعية مار مينا للدراسات القبطية بالإسكندرية، من بينهم الطبيب السكندرى والمؤرخ الكنسى القدير د. منير شكرى، والأستاذ بديع عبدالملك. ففى ٢٢ يونيو ١٩٥٩ توجه إلى المنطقة الأثرية ومعه شعبه من الإسكندرية ودمنهور والقاهرة، وأقام صلاة فى المنطقة، وكان كاتب هذه السطور أحد الحاضرين، وهو يبلغ من العمر ٩ سنوات بصحبة والدى. وفى ٢٧ نوفمبر ١٩٥٩ توجه البابا لمنطقة مريوط وعلى بعد ثلاثة كيلومترات من المنطقة الأثرية وضع حجر أساس لدير القديس مينا الحديث، وبدأ فى تعمير الدير. كما أن البابا كيرلس السادس قام بتكليف الأستاذ بديع عبدالملك بكتابة اللوحة التذكارية التى وُضعت على حجر الأساس، وما زالت اللوحة التذكارية موجودة بالدير تشهد على روعة الكتابة والإخراج.
لكن الشىء الغريب هو أن المنطقة كانت صحراء جرداء ليس بها أحد سوى مجموعة من بدو الصحراء يقيمون فى خيام، وكان كبيرهم يُسمى «جمعة»، فكان على البابا كيرلس السادس، بفكره المستنير، أن يجتذب صداقة هؤلاء البدو ويكون أبًا حقيقيًا لهم. فما أن أقيمت المبانى الأولى بالدير حتى طلب من الرهبان السبعة الذين كانوا باكورة الرهبنة أن يُخصصوا بالدير حجرة بها الإسعافات الأولية لأولاده البدو المحيطين بهم، وكثيرًا ما كنت أرى «جمعة» وهو رجل مُسن ومعه أولاده وعشيرته يتوجهون إلى الدير لاستلام المستلزمات الطبية. كانت هذه اللمسة الأبوية موضع ترحيب من بدو الصحراء، حتى إنهم اتخذوا من البابا كيرلس أبًا لهم. كان فى الفترة التى يقيم بها بالدير مصدر فرح لهؤلاء البدو، بل كانوا يحسون ببركة هذا الرجل البسيط. وعند سفره يذهبون لوداعه، وعند قدومه يحضرون لتحيته.
وفى يوم الثلاثاء ٩ مارس ١٩٧١ غادر البابا كيرلس أرضنا بسلام بعد أن أكمل رسالته بأمانة كاملة نحو الوطن ونحو الكنيسة، وكان قد طلب فى وصيته أن يُدفن بملابس الخيش التى كانت على جسده، لأنه كان ناسكًا حقيقيًا، وأن يُدفن بدير مار مينا بمريوط. ولكن لظروف تم تنفيذ وصيته بعد عام من رحيله. ففى ٢٢ نوفمبر ١٩٧٢ حمل أبناؤه الصندوق الذى به جثمانه من الكاتدرائية المرقسية بالعباسية وتوجهوا إلى صحراء مريوط وفى مقدمتهم البابا شنودة الثالث «١٩٧١-٢٠١٢» البطريرك ١١٧، وما أن علم بدو الصحراء بذلك حتى خرجوا إلى محطة قطار بهيج «خط الصحراء» التى تبعد عن الدير بمسافة ١٢ كيلومترًا، لحمل الصندوق الخشبى. كان المطر فى صحراء مريوط قد توقف عدة أشهر، وما أن وصل الجثمان إلى الصحراء هطلت الأمطار بغزارة فاستبشر البدو خيرًا، وساروا بالصندوق ١٢ كيلومترًا ودخلوا به الكنيسة، حتى أن الحاضرين بالكنيسة فوجئوا بأن بدو الصحراء يدخلون الكنيسة حاملين صندوق البابا كيرلس السادس وهم فى بكاء شديد.
هذا البطريرك الرائع قال عنه الكاتب الألمانى «أوتو ميناردس»: «ليس عجبًا أن يصير الراهب بطريركًا، ولكن العجب أن يظل البطريرك راهبًا». هذا نموذج طيب لرجل أحب مصر، وأحب الكنيسة، وأحب المصريين مسلمين وأقباطًا فكان عصره سلامًا وبركة وهدوءًا واستقرارًا.