رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

المتنبى.. شرارة أطلقت الغضب العراقى


انفجار غضب الشارع العراقى لم يولد فى لحظة من رحم اليأس والإحباط.. فى وسط العاصمة بغداد ليس بعيدًا عن ساحات تجمع المتظاهرين يقع شاهدًا على أحداث المشهد العراقى، المعلم الوحيد الذى ما زال يستحضر تاريخ عراق التنوير والثقافة، حيث يحتضن شارع المتنبى «كرنفالًا» حاشدًا صباح كل جمعة، بكل عبق الحضارة والعراقة، التى تحيط بقاياها بالمنطقة حتى الآن.
أجواء المتنبى تحمل الكثير من الملامح العامة لأحياء القاهرة العريقة مثل «الأزهر» و«الحسين». حالة تستدعى للذاكرة «هايد بارك»- حدائق لندن التى اشتهرت باحتضانها منابر لعرض مختلف الآراء على رواد الحديقة- تغلب على منتدياته سخونة الحوارات السياسية التى تجمع بين مختلف التوجهات والرؤى.. منذ التاسعة صباحًا تدب الروح بين شوارعه مع توافد حشود جماهير تضم نخبة من فنانى، مثقفى، إعلاميى، وكتاب العراق، بالإضافة إلى الزوار من مختلف الدول العربية والأوروبية.. ليبدأ انتشارهم بين مختلف المقاهى والمنتديات المختلفة على امتداد الشارع المكتظة أرصفته ومحاله بباعة الكتب ولا شىء سواها. السياسة التى فرضت نفسها على حالة الحوار الجماعى بين رواده، لم تلغِ التزام المتنبى بجذوره الثقافية، هذا المزيج الثقافى- السياسى يبادر الزائر فور دخوله للجلوس داخل أعرق المقاهى الشعبية فى بغداد.. «مقهى الشابندر» الذى يماثل عبق تاريخه أجواء مقهى «الفيشاوى» فى الحسين. تصطدم العين بصور كبيرة على الحائط لأبناء وأحفاد صاحب المقهى من ضحايا تفجير الشارع والمقهى الذى استهدف ترهيب وإطفاء آخر مساحة تنوير فى العقل العراقى عام ٢٠٠٧ بسيارة مفخخة أدت إلى قتل ٣٠ شخصًا، وتسبّبت فى تدمير العديد من الأبنية القديمة، فقد انهارت المكتبة العصرية بشكل كامل، وهى الأقدم فى الشارع إذ تأسست عام ١٩٠٨، كما دمّر مقهى الشابندر واحترقت آلاف الكتب بالإضافة إلى مكتبات ومطابع كثيرة، حتى أصبح العديد من المبانى البغدادية الأثرية فى المنطقة ركامًا منثورًا، فكان ذلك مشهدًا مأساويًا لا تزال مرارته حاضرة فى أذهان المثقفين العراقيين. وفى ٢٠٠٨ أعيد افتتاح شارع المتنبى مجدّدًا بعد إعادة إعماره وإضافة رمزه التاريخى، الشاعر أبى الطيّب المتنبى، عبر إقامة نصب جديد له من البرونز بمحاذاة نهر دجلة.

طقوس التلاحم الشعبى الذى يشهده المتنبى كانت أسبوعيًا تعزز شحن الشارع ضد كل الجرائم التى ارتكبت بحق العراق منذ عام ٢٠٠٣، وتحمل تبعاتها المواطن حتى أدت به إلى لحظة انفجار لم تكن ضمن حسابات إيران بعدما اطمأنت إلى بسط نفوذها الكامل على كل مفاصل العراق، سواء أمنيًا، سياسيًا، اقتصاديًا.. ولا حسابات تركيا التى تحتل جزءًا من أرض العراق، ولم تنقطع غارات طائراتها على منطقة الشمال. تمرد المتنبى على حدوده الثقافية نجح على مدى سنوات فى نقل أجواء «الهايد بارك» الخطابية إلى حالة تمرد شعبى عام قادر على فرض أمر واقع جديد.. فى المقابل تحشد إيران، بعدما فقدت التوازن نتيجة الحراك الشعبى ضدها لتسقط آخر «ورقة توت» عن صنم المتاجرة بآلام واضطهاد طائفة زعمت إيران تنصيب نفسها للدفاع عنها، حيث سجلت المحافظات العراقية ذات الأغلبية الشيعية أعلى مشاركة للمتظاهرين، كما نقلت الكاميرات للعالم مشاهد حرق صور مرشد الجمهورية الإيرانية خامنئى، وقائد فيلق القدس بالحرس الثورى الإيرانى قاسم سليمانى، بالإضافة إلى حرق مقار الميليشيات الموالية لإيران.
رغم اختلاف وتباين الرؤى بين دوائر الحوار المتجمعة.. إلا أنها تتقاسم عنوانًا مشتركًا حول الحلول المطروحة للخروج من حالة «اللاعقل» السياسى السائدة. وفقًا لشهادات المثقفين وباعة الكتب، جموع رواد المتنبى لا تقتصر على هواة اقتناء الكتب، إذ تلجأ أعداد كبيرة إلى المكان العريق بحثًا عن حياة مدنية وحالة حوار مفتوح كانت تفتقدها الأمكنة الأخرى فى بغداد، بينما يتحول الشارع قبل الانتخابات إلى «سوق انتخابية» تكتظ بالساسة ورؤساء الأحزاب.
على جانب مدخل المتنبى تختزن جدران مبنى «الأستانة» فصولًا من التاريخ، حيث شهد تتويج الملك فيصل الأول، كما اعتبر أول مقر رسمى للحكومة العراقية الملكية، حاليًا تحولت مساحاته الشاسعة، التى تطل على النهر، إلى مركز متنوع للفنون التشكيلية والمسرحية والغنائية والحرف الشعبية.. بينما تتوسطه بشموخ ساعة «القشلة»، التى يعود تاريخ بنائها إلى عام ١٨٥٠.
منذ الحصار الاقتصادى على العراق والأعوام التى تلت الغزو الأمريكى، اضطر العديد من نخبة مثقفى العراق إلى بيع مكتباتهم للتغلب على صعوبة ظروف المعيشة.. هذه الظاهرة بدأت فى التراجع نتيجة عدة أسباب.. أولها: انخفاض سعر الكتب، ما جعل عائد البيع غير مُجزٍ ماديًا، تحديدًا أمام حاجة التغلب على ظروف مرضية أو معيشية، علمًا بأن الدولة تكتفى فى هذه الحالات بدور المتفرج على الفنان أو الأديب دون تقديم يد العون له. ثانيًا: العزوف عن الشراء هو نتيجة طبيعية للظروف الاقتصادية المتردية التى ظل يعانى منها المواطن العراقى حتى وصلت به إلى درجة الانفجار. ثالثًا: تراجع الاهتمام العام باقتناء نوادر هذه المكتبات مقابل تصدر أولويات أكثر إلحاحًا فرضتها ظروف المعيشة.