رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

النصب بقناع الوزير!


 

الرئيس السنغالي ماكي سال، الذي أعيد انتخابه لولاية ثانية في 24 فبراير الماضي، يستحق التحية، ليس لأن فريق بلاده المشارك في بطولة كأس الأمم الإفريقية يتصدر قائمة المنتخبات الأكثر قيمة تسويقية، ولكن لأنه كان واحدًا من قليلين نجو من عمليه نصب واحتيال، وكان سببًا رئيسيًا، في سقوط تشكيل عصابي، إسرائيلي فرنسي، استطاع أن يجمع 90 مليون دولار، باستخدام قناع لوجه جان إيف لودريان، وزير الخارجية الفرنسي الحالي، وزير الدفاع السابق!.

لم تعد الدنيا مسرحًا كبيرًا، نساؤه ورجاله ممثلون، كما قال الأستاذ وليام شكسبير، الله يرحمه. بل صارت أقرب إلى سيرك، ذابت فيه الفوارق بين المسئولين والمهرجين، للدرجة التي جعلتنا في «فقرة الساحر» نرى رئيس دولة، يكاد يقع ضحية محتال، انتحل صفة وزير في دولة أخرى، لولا أن الأخير استخدم في مخاطبته كلمة «أنتم» بدلًا من «أنت». ولأن الرئيس السنغالي تربطه علاقة قوية بوزير الدفاع الفرنسي، ولا يوجد «تكليف» بين الاثنين، ارتاب «سال» في الأمر، وأجرى اتصالًا بصديقه «لودريان» لاستيضاح الأمر. وبالتزامن، كانت وزارة الدفاع التونسية قد تلقت في يوليو 2015 بريدا إلكترونيًا بتوقيع جان إيف لودريان، تحمل ملحقاته فاتورة بأربع طائرات مروحية من طراز «تايجر»، ولأنها لم تطلب هذا الطراز، اتصلت بنظيرتها الفرنسية، التي نفت أي علاقة لها بالأمر. ومن هنا بدأت تتكشف سلسلة طويلة من عمليات الاحتيال المثيرة، بعد إبلاغ «لودريان» السلطات المختصة لاتخاذ ما تراه لازمًا.

جان إيف لودريان، Jean-Yves Le Drian، كان وزيرا للدفاع منذ 2014 إلى 2017، أي في عهد فرانسوا هولاند، ومع تولي إيمانويل ماكرون، صار وزيرًا للخارجية. وسيحتفل في 30 يونيو الجاري بعيد ميلاده الثاني والسبعين. وربما رأت هيئة الإذاعة البريطانية، BBC، أن تحتفل به على طريقتها الخاصة، ونشرت الخميس الماضي، تقريرًا، أعادت فيه إنتاج، أو تدوير «قصة الوزير الفرنسي المزيف الذي سرق ملايين الدولارات»، ولم نجد تحت هذا العنوان أي جديد بشأن القضية التي تناولها بالتفصيل برنامج التحقيقات الفرنسي «أونفويي سبيسيال» (مبعوث خاص) مساء الخميس 14 فبراير الماضي، تحت عنوان «وزير مزيف.. ومحتال حقيقي»، تضمن العديد من اللقاءات، وأعاد تجسيد الأحداث بطريقة مزجت بين الواقع والدراما.

قناع من السليكون، وتليفون أرضي، ولاب توب. وعبر تطبيق سكايب، قام التشكيل العصابي، الذي يضم إسرائيليين من أصول فرنسية، بالاتصال بالضحايا المحتملين، من مكتب أسسوه في تل أبيب، كان نسخة طبق الأصل من مكتب «لودريان» ووضعوا فيه أثاثا مطابقًا للمكتب الحقيقي، وفي الخلفية صورةً للرئيس الفرنسي، مع علم فرنسا وعلم الاتحاد الأوربي. وطبيعي أن يقوم التشكيل العصابي بدراسة الضحايا جيدًا، لإيجاد ثغرات تمكنه من إقناعهم بأن يدفعوا، نيابة عن الحكومة الفرنسية، فدية لإرهابيين في منطقة الشرق الأوسط، لكي يفرجوا عن رهائن. أو لتغطية تكاليف عمليات مخابراتية سرية!.

أغاخان الرابع، زعيم طائفة الشيعة الإسماعيلية النزارية، كان بين الضحايا المحتملين أو المستهدفين. وبالفعل قام في 29 فبراير 2016 بتحويل عشرين مليون يورو. وبعده بأيام قامت سيدة الأعمال الثرية كورين منزلوبولو بتحويل ستة ملايين يورو. وأواخر فبراير الماضي، قامت الشرطة الإسرائيلية بإلقاء القبض على ثلاثة أشخاص، تتراوح أعمارهم بين 37 و47 سنة، قاموا بالاستيلاء على ثمانية ملايين يورو من أحد رجال الأعمال، بعد انتحال أحدهم شخصية «لودريان». ووقتها، ذكرت جريدة «لو باريزيان» الفرنسية، أن الشرطة الفرنسية تعاونت مع وحدة «لاهَف 433» الإسرائيلية لمكافحة الجرائم الكبرى، لتحديد موقع المتهمين في تل أبيب. وقامت قوة مشتركة بمرافقة سيدة كانت ستسلمهم مبلغ مليوني يورو، في 26 فبراير، وتمكنوا من إلقاء القبض على اثنين، بينما أفلت الثالث قبل أن يتم إلقاء القبض عليه لاحقًا. وقيل إن الشرطة الإسرائيلية صادرت يختًا في تل أبيب له علاقة بالقضية!.

ما يجعلنا أمام أحد عروض السيرك فعلًا، هو أن السلطات الفرنسية لم تنجح، إلى الآن، في إلقاء القبض على كل أفراد التشكيل العصابي، بعد مرور 4 سنوات على إدانة القضاء الفرنسي لزعيمهم، وبعد سنتين من سجنه. والكلام عن شخص يُدعى جيلبير شيكلي، فرنسي إسرائيلي من أصول تونسية، عاقبه القضاء الفرنسي في 2015 بالسجن لمدة سبع سنوات، وبعد أن رفضت السلطات الإسرائيلية تسليمه، تم إلقاء القبض عليه في أوكرانيا التي استجابت لطلب باريس وسلمته إليها في 2017، غير أن سجن «شيكلي» لم يوقف عمليات الاحتيال باسم الوزير الفرنسي، ما يعني أن باقي أفراد التشكيل العصابي ما زالوا طلقاء.

..وأخيرًا، ظننا أن التقرير الذي نشرته BBC يحمل جديدًا، لكننا اكتشفنا أنه مجرد إعادة تدوير لمعلومات قديمة، مع مزاعم بأن «تقارير تصل إلى سفارات، بأن لودريان المزيف بدأ من جديد، ويحاول ابتزاز الأموال، من أصدقاء فرنسا ذوي النفوذ». الأمر الذي  يجعلنا نقول بصوت الأستاذ يوسف وهبي: وما الدنيا إلا سيركٌ كبير!.