رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الانتخابات الأوروبية.. وقفة مؤجَّلة


عاصفة جديدة هبّت على المشهد السياسى الأوروبى، بتراجع الكتلتين اللتين تقاسمتا السلطة فى الاتحاد الأوروبى منذ تأسيسه، وتصاعد الأحزاب والقوى اليمينية القومية فى بريطانيا وفرنسا وإيطاليا، واحتفاظها بسيطرتها فى المجر وبولندا، وقبل أن تعتقد أنك بعيد عن نطاق تأثير تلك العاصفة تذكر أن غالبية هذه الأحزاب خاضت المعركة تحت شعار «لا لأورابيا»، الذى اخترعه ماتيو سالفينى، نائب رئيس الوزراء الإيطالى، وترجمته لا لأوروبا عربية.
صحيح أن البرلمان الأوروبى لا يزال تحت سيطرة هاتين الكتلتين والقوى أوروبية التوجه، لكن المعارضين للاتحاد- المشككين فى «أوروبا الموحدة»- الذين خاضوا المعركة تحت شعارات تدمير أو تفجير الاتحاد من الداخل، حصدوا 168 مقعدًا، أى ربع عدد المقاعد، ما سيجعلهم يلعبون خلال السنوات الخمس المقبلة دورًا كبيرًا فى صياغة القوانين الأوروبية، حتى لو سلّمنا بعدم قدرتهم على إعاقة عمل البرلمان، كما كانوا يستهدفون أو بحسب نياتهم المُعلنة، وإن كانت المعادلة أكثر تعقيدًا من حصرها فى هذا أو ذاك.
إلى جانب «حزب بريكست» البريطانى، المطالب بانسحاب فورى وبلا اتفاق من التكتل، والذى فاز كما كان متوقعًا بفارق كبير عن كل الأحزاب البريطانية «58 مقعدًا من مقاعد بريطانيا الـ73»، جاء تقدم «التجمع الوطنى» فى فرنسا و«حزب الرابطة» فى إيطاليا، ليوجه ضربة قاسية للمحور الألمانى- الفرنسى، المحرّك الرئيسى للمشروع الأوروبى، الذى يحاول الرئيس الفرنسى، إيمانويل ماكرون، قيادته بعد الانسحاب التدريجى للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، ومن المحتمل والوارد جدًا أن يتم تشكيل تحالف واسع للأحزاب القومية، المشككة فى جدوى ذلك المشروع، وفى الوحدة الأوروبية عمومًا، سيضم غالبًا التحالف المدنى المجرى «فيديس»، حزب رئيس الوزراء فيكتور أوربان.
قائمة «النهضة»، المدعومة من الرئيس الفرنسى، كانت خسارتها مضاعفة أمام قائمة «التجمع الوطنى» بزعامة مارين لوبان، حتى لو كان الفارق أقل من 1% «23.3% مقابل 22.4%» وعليه، وجدتها لوبان فرصة لمطالبة ماكرون، الذى انتزع منها رئاسة فرنسا، فى انتخابات 2017، بحل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة، وبررت ذلك فور إعلان النتائج بأن «رئيس الجمهورية هو الذى وضع رصيده الرئاسى على المحك فى هذا التصويت، لجعله استفتاءً على سياساته وحتى على شخصه». وإذا كانت الحكومة الفرنسية قد أعلنت رفضها هذا المطلب، فإن الحكومة الألمانية قد تضطر إلى الاستجابة لمطلب شبيه وأن تدعو لانتخابات مبكرة، بعد تراجع الحزب الديمقراطى الاجتماعى والديمقراطيين المسيحيين.
الشىء نفسه قد يحدث فى إيطاليا بنجاح حزب الرابطة، الذى يتزعمه ماتيو سالفينى، فى فرض سيطرته على المشهد السياسى فى إيطاليا، بمضاعفة النسبة التى حصل عليها منذ سنة فى الانتخابات المحلية، بحصوله على 34.4% التى هى أيضًا ضعف نسبة حركة النجوم الخمس، التى تشاركه التحالف الحاكم. ما يعنى أن هذا التحالف قد يسقط، وبالتالى الحكومة لو لم توافق الحركة على إعادة توزيع الحقائب داخل الحكومة لصالح الرابطة، أو «سالفينى»، الذى قد ينتظر الظرف المناسب لوضع يده بالكامل على مقاليد الحكم والسلطة، وقد يساعد رئيس الوزراء الأسبق والمزمن، سيلفيو برلسكونى، فى تهيئة هذا الظرف، بإعادة طرحه لمشروع تشكيل حكومة يمينية تقوم على تحالف، كذلك الذى اعتاد أن يخوض به الانتخابات. والإشارة هنا مهمة إلى أن «سالفينى» خاض الانتخابات الإيطالية متحالفًا مع برلسكونى، لكنه انفصل عنه، بعد إعلان النتائج، ليتشكل الائتلاف الحاكم الحالى.
المعادلة معقدة فعلًا، ولا يمكن حلها بـ«نظرية المؤامرة»، التى بدا أنها أكلت رءوس كثيرين، ودفعت كثيرين إلى التشكيك، بشكل استباقى، بزعم حدوث تدخلات خارجية، ولا تزال روسيا تواجه الكم الأكبر من الاتهامات، بالتأثير فى أى انتخابات لا يرضى الغرب عن نتائجها، بينما أضيفت الصين إلى قائمة المتهمين، وقام الرئيس الفرنسى بتوسيع الدائرة، وأضاف «جهات أجنبية أخرى»، زاعمًا أنه لم يحدث أن تدخلت هذه الجهات إلى هذا الحد فى تمويل الأحزاب اليمينية ومساعدتها، لكنه اضطر، قبل الإشارة إلى وجود جهات أمريكية أو أشخاص أمريكيين، إلى التأكيد على أنه لا يخلط بين الدول و«بعض الأفراد، حتى ولو كانوا قريبين من الحكومات أو ينتمون إلى جماعات ضغط».
لا يمكن، طبعًا، إنكار تأثير تلك التدخلات الخارجية على اتجاهات التصويت، لكن لا يمكن أيضًا تجاهل أن سوء إدارة حكومات أوروبية عديدة لملف المتطرفين العرب، وميوعة مؤسسات الاتحاد فى التعامل مع هذا الملف، كان لهما الدور الأكبر، فى صعود الأحزاب والقوى المتطرفة، وفى تزايد تطرفها ضدّ العرب وضد الاتحاد، وعليه اتسعت «ولا تزال» مساحة الرافضين لوجود العرب، عمومًا، متطرفين ومعتدلين وتزايد عدد المطالبين باستعادة السيادة الوطنية وتجريد الاتحاد الأوروبى من صلاحياته.