رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ


استوقفتنى فى سورة الأعراف الآيتان الكريمتان «اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِى آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (١٧٥) وَلَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (١٧٦)» وبحثت عن تفسيرهما فوجدت أن هناك من العباد من قربه الله إليه وأفهمهه حجج التوحيد وأدلته حتى صار عالمًا بها، قادرًا على بيانها والجدل بها، (وَلكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَواهُ) أى ركن إلى الدنيا ومال إليها وجعل كل حظه من حياته التمتع من لذائذها، ولم يوجّه إلى الحياة الروحية عزما، وركب رأسه فلم يراع الاهتداء بشىء من آيات الله، بل كان عمله مخالفا لعلمه فسلبه الله هذا العلم، لأن العلم الذى لا يعمل به لا يلبث أن يزول ويكون أشبه بالحية تنسلخ من جلدها وتخرج منه وتتركه على الأرض.
وفى التعبير بالانسلاخ إيماء إلى أنه كان متمكنًا منها ظاهرًا لا باطنًا وأنه ترك آيات الله وراءه ظهره، ولم يلتفت إليها ليهتدى بها.
وبعد أن انسلخ منها باختياره لحقه الشيطان فأدركه وتمكن من الوسوسة له، إذ لم يبق لديه من نور البصيرة ولا أمارات الهداية ما يحول بينه وبين قبول وسوسته وسلوك فهمه، فصار من الضالين المفسدين. وكانت عاقبته البوار والخذلان وخاب فى الآخرة والأولى.
وفى الآية عبرة وموعظة للمؤمنين وتحذير لهم من اتباع أهوائهم حتى لا ينزلقوا فى مثل تلك الهوة التى انزلق إليها صاحب المثل بحبه للدنيا وركونه إلى شهواتها ولذاتها..يقول الإمام القشيرى: إذا كانت مساكنة آدم للجنّة وطمعه فى الخلود فيها أوجبا خروجه عنها، فالركون إلى الدنيا- متى يوجب البقاء فيها؟.. موافقة الهوى تنزل صاحبها من سماء العزّ إلى تراب الذّل، وتلقيه فى وهدة الهوان ومن لم يصدّق علما فعن قريب يقاسيه وجودا. والمحجوب عن الحقيقة عنده الإساءة والإحسان (سيان)، فهو فى الحالين: إمّا صاحب ضجر أو صاحب بطر لا يحمل المحنة إلا على زوال الدولة، ولا يقابل النعمة إلا بالنهمة، فهو فى الحالين محجوب عن الحقيقة.
ويقال ليست العبرة بما يلوح فى الحال، إنما العبرة بما يؤول إليه فى المآل.
فمن تلقى علم الله بعزيمة ونية صادقة تسمو نفسه وتصعد فى سلم الكمال لما فيها من الهداية إلى سبيل الخيروالحرص على عمل النافع وما فيه فائدة روحية له، أما من تلقاها بغير قصد أو بنية كسب المال والجاه، وفى نفسه ما يصرفه عنها فلن يستفيد منها شيئًا وسرعان ما ينسلخ منها.
ويكون (فمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ) فهو لإخلاده وميله إلى الدنيا واتباعه هواه، يكون كذلك فى أسوأ حال، فهو فى همّ دائب وشغل شاغل فى جمع عرض الدنيا وزخرفها، يعنى بخسيس أموره وجليلها كشأن عبّاد الأهواء وطلاب الأموال ترى المرء منهم كاللاهث من الإعياء والتعب وإن كان ما يعنى به حقيرًا لا يتعب ولا يعيى، وتراه كلما أصاب سعة وبسطة فى الدنيا زاد طمعا فيها.