رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رسائل إلى أردوغان «1-3»




لعل الانتخابات المحلية الأخيرة من أهم وأخطر الانتخابات التى جرت فى تركيا فى العقدين الأخيرين، إذ تُمَثِّل نتائجها ضربة قوية لحزب «العدالة والتنمية» وأردوغان، على الرغم من فوز ذلك الحزب بنصف المحليات، وربما يُمثل نجاح المعارضة فى انتزاع البلديات فى كبرى المدن التركية، لا سيما «إسطنبول» العاصمة الاقتصادية، و«أنقرة» العاصمة السياسية، و«إزمير» أكبر الموانئ- أكبر رسالة يوجهها الشعب التركى إلى تحولات سياسة أردوغان فى السنوات الأخيرة، فما هذه الرسالة؟، وهل وصلت إلى أردوغان؟.
فى الوقت نفسه، لن ندخل فى دور المكايدة السياسية لأردوغان نتيجة دعمه قوى الإسلام السياسى، وإنما نحاول هنا تقديم تحليل سياسى تاريخى لتجربة فى الحكم والإدارة، كانت واعدة فى البداية، وأحدثت زخمًا كبيرًا فى تاريخ المنطقة، لكن التحولات الأخيرة تكاد تعصف بالتجربة كلها، فما الظروف التاريخية التى أفرزت تجربة أردوغان؟، وما التحولات التى تكاد أن تعصف به الآن؟.
لا نستطيع أن نفهم «ظاهرة أردوغان» دون دراسة التقلبات الحادة التى مرت بها تركيا منذ سنوات الخمسينيات، لا سيما ظاهرة الانقلابات العسكرية المتتالية فى التاريخ التركى، وربما تعود هذه الظاهرة إلى طبيعة الدور التاريخى للجيش حتى فى الفترة العثمانية، إذ لعبت الإنكشارية دورًا مهمًا فى الحياة السياسية، بل وفى الإطاحة بالعديد من السلاطين، وهنا لا بُد من تذكّر طبيعة الأتراك القتالية وحب الغزو، هذه الطبيعة التى أتوا بها من أواسط آسيا القاحلة، ومع دخول الأتراك إلى الإسلام سيتحول ذلك إلى اعتناق العثمانيين فكرة «الجهاد» ونشر الإسلام فى أوروبا، ومن هنا ستكتسب الدولة نفسها طابعًا عسكريًا سيرتبط بها ارتباطًا شديدًا.. وحتى مع تقليم أظافر الإنكشارية فى القرن التاسع عشر وإنشاء الجيش الحديث، سيظل للجيش دور مهم فى الدولة، وسيزداد هذا الدور مع مصطفى كمال أتاتورك، ونجاح الجيش التركى فى طرد الغزاة من أرضه فى أعقاب الحرب العالمية الأولى، وسيتدعم ذلك الدور بالنص عليه فى الدستور، كما سيتأكد دور الجيش نتيجة الطبيعة الجغرافية لتركيا، والجيران «المعادين لها»، مثل الاتحاد السوفيتى، أو روسيا بعد ذلك، واليونان والعداء التاريخى المرير، أو حتى سوريا والعراق والميراث التاريخى للثورة العربية ضد الأتراك.
من هنا، ازداد دور الجيش وتأثيره فى المجتمع التركى، ومن هنا أيضًا مهادنة أردوغان لجنرالات الجيش فى البداية، ثم بداية تقليم أظافر المؤسسة العسكرية دستوريًا ومجتمعيًا، ثم الصدام الكبير الذى ظهر فى الانقلاب العسكرى الفاشل الأخير، وربما أحسّ أردوغان بالنشوة فى خروجه منتصرًا من هذه المعركة، التى رأى فيها الطريق إلى الديمقراطية، لكن مَنْ يقرأ جيدًا التاريخ التركى يعرف أن تركيا بعد الانقلاب لم تعد مثلها من قبله، فقد استثارت إهانة الجيش قطاعات كبيرة من القوميين الأتراك، فضلًا عن قدامى الجنرالات.
وهكذا خرج أردوغان منتصرًا فى هذا الميدان، ولكنه نصر أنهكه بشدة، واستثار عليه غضب قطاعات لا بأس بها من المجتمع التركى التقليدى القومى.