رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تركيا تُشعل المبارزة بالمفخخات فى الشمال السورى



الحل المطروح الآن بدخول الجيش التركى والمسلحين المدعومين من تركيا إلى مناطق تابعة لقوات سوريا الديمقراطية فى شمالى وشرقى سوريا سيساعد على عودة تهديد تنظيم داعش مجددًا
قبيل ساعات وقع انفجار بسيارة مفخخة فى مدينة عفرين، التابعة لمحافظة حلب بالشمال السورى، أسفر عن قتلى وجرحى، كما هو معتاد، أو ربما، كما جرى منذ ٣ أيام عندما جرى تفجير عبوة ناسفة بإحدى حافلات النقل وسط عفرين أيضًا. وأسفر حينها عن سقوط ٥ قتلى وإصابة ٩ آخرين، لتدخل بذلك حرب المفخخات فصلًا ساخنًا، باعتبار التفجير الأخير جرى بالقرب من مقر لفصيل تابع لأنقرة، فالمبنى الذى تأثر بشدة جراء الانفجار، هو مقر ميليشيات «أحرار الشرقية» الفصيل المدعوم مباشرة من تركيا، حيث يقع مقره الرئيسى فى حى «المركز الثقافى» وسط مدينة عفرين، منذ الاحتلال التركى للمدينة قبل عام بالضبط من الآن.
لذلك يربط البعض تلك التفجيرات بحلول الذكرى الأولى لعملية «غصن الزيتون» العسكرية، والتى بموجبها احتلت وحدات من الجيش التركى فى ٢٠ يناير ٢٠١٨ منطقة عفرين بالكامل، والتى تشمل فضلًا عن عفرين المدينة (٢٨٢ بلدة وقرية) تقطنها غالبية كردية. ومنذ كامل الاستيلاء على المنطقة والقوات العسكرية التركية تدير المنطقة بمعاونة مجموعة من الفصائل المسلحة الحليفة لها، أشهرها وأكبرها «الجيش السورى الحر» ومعه العديد من الفصائل الأقل عددًا، لكنها تحتفظ بذات الولاء لأنقرة.
ربما تكون تلك المبارزة، قد بدأت صبيحة الإعلان عما يشبه «الاتفاق» الأمريكى التركى حول خروج القوات الأمريكية من الشمال السورى، وبدء الشروع فى اعتماد الحلم التركى «المنطقة الآمنة». فبعد ساعات من تداول الأخبار للمكالمة الهاتفية التى جرت ما بين ترامب وأردوغان، هزت مدينة منبج افتتاحية أعمال التفجير، فى المطعم «المعلوم» أن الجنود الأمريكيين معتادون ارتياده يوميًا. واختلفت السيناريوهات حينها حول الجهة التى تقف وراء عملية التفجير، رغبة فى فك شفرة الرسالة التى حملتها العبوة الناسفة، فيما ذهبت الأنظار سريعًا فى البداية لتركيا باعتبارها، تريد تسويق «صورة» الإرهاب الذى تدخل الشمال السورى لمكافحته، متمثلًا فى قوات سوريا الديمقراطية باعتبارها النسخة السورية لـ«حزب العمال الكردستانى»، وعزز ذلك أيضًا التبنى السريع للعملية من قِبل تنظيم «داعش»، رغم أن العديد من المراقبين استبعد قليلا هذه الفرضية، من حيث قدرة داعش «المتدهورة» والمشتتة إلى حد كبير الآن، لكن هذا لم ينف تأكد الجمع من أن لأنقرة القدرة التامة على تحريك خلية نشطة من «داعش»، لتنفيذ عملية من هذا النوع.
مؤخرًا برز سيناريو آخر؛ قد يكون قريبًا جدًا من الترجيح. فى أن تكون دمشق وطهران هما من يقفان وراء عملية منبج، خاصة بعد أن تكررت التفجيرات بتكتيكات تنفيذ أقرب لما قد يكون لقوات النظام، أو لبعض من الفصائل الإيرانية أو غيرهما ممن نفذ عمليات على هذا النسق. فاختيار طرق مرور الأرتال العسكرية الأمريكية وزرع العبوات بصورة احترافية، والتوالى فى نصب الكمائن والإطلاقات الصاروخية التى لم يعلن عنها، بحق القوات العسكرية التركية المشتركة «الدوريات المزدوجة». كان هذا هو محور لقاء وتقرير استخباراتى أمريكى، قيم هذه الأوضاع المستحدثة وقدر أن درجة تهديد عالية الخطورة تكتنف الفصل الجديد من المشهد، الذى نجحت فيه المجموعات المدعومة من النظام، فى تحقيق درجة اقتراب مؤثر من القوات الأمريكية على الأرض. وأن هذا الأخير كان له دخل كبير فى القرار الأمريكى المفاجئ بالانسحاب، باعتبار مستخلص التقرير الاستخباراتى عرض على البيت الأبيض منذ نحو شهرين.
وفق هذا السياق؛ تكون المبارزة قد اتسعت أطرافها مما يزيدها غموضًا ويطيل عمر الجولة. وهذا فعليًا ما هو جارٍ على الأرض، فخلال ثلاثة أسابيع أو يزيد قليلًا التهبت الآفاق بنيران المفخخات، وبدا أن التعقيد والتنافس السياسى الذى أفضى إلى حالة من عدم اليقين لدى معظم الأطراف، يجر المعادلات إلى مزيد من التدهور والألعاب الخشنة. ويفتح الأبواب والأفواه عما ظل مسكوتًا عنه طوال سنوات الأزمة، بدأه السفير الأمريكى السابق فى دمشق، «روبرت فورد»، فى مقال نشره فى جريدة «الشرق الأوسط» السعودية فى نهاية ديسمبر الماضى، حيث رأى فيه فورد أن قرار ترامب سحب القوات من سوريا صائب، وإن اختلف معه فى طريقة إخراج القرار للعلن، حيث وضع توقعا بالمقال يفيد بأن الحكومة السورية وحليفها الإيرانى، قد يلجآن إلى دعم عناصر تنفذ عمليات ضد القوات الأمريكية فى حال عدم انسحابها، فيما يشبه سيناريو عام ١٩٨٣ بالتفجيرات التى جرت ضد قوات المارينز فى بيروت.
على جانب آخر؛ طوال أسبوع كامل مضى احتل «بريت ماكجروك» مبعوث واشنطن للتحالف الدولى، شاشات التلفزة والتحقيقات الصحفية، فى سيل هادر من التصريحات أعقبت استقالته من منصبه، بداية من تسبيب قراره بأنه اعتراض على قرار ترامب بالانسحاب من الشمال السورى، وصولًا إلى العديد من المشاهد الفاضحة التى كشف عنها الستار بصورة مفاجئة، وسط مباراة لم يزل لاعبوها بملابس اللعب ولم تضع أيًا من أوزارها بعد. عندما صرح لشبكة CNN بـ«قضينا معظم وقتنا نحث أنقرة على منع تسلل داعش، من تركيا إلى سوريا. فمعظم الدعم كان قادمًا من تركيا عبر الحدود التركية السورية، وظل ذلك محبطًا للغاية، حيث لم تقم تركيا بالكثير من الإجراءات على الحدود لمنع ذلك الدعم». كما ذهب إلى أن تركيا لا يمكنها أخذ مكان الولايات المتحدة فى المنطقة، باعتبار أن الجميع هناك متفق على أن داعش لم يهزم بعد.
ولذلك لم يتحفظ ماكجروك من وصف قرار ترامب بـ«المتهور» أكثر من مرة، عند سؤاله عن الفترة التى قضاها بالمنصب والمنطقة منذ أكتوبر ٢٠١٥. واستند صراحة على هذا التقدير، فى مقاله الشهير بـ«الواشنطن بوست» معتبرًا أن تركيا ليست شريكًا موثوقًا للتحالف فى القضاء على داعش. وأن الحل المطروح الآن بدخول الجيش التركى والمسلحين المدعومين من تركيا إلى مناطق تابعة لقوات سوريا الديمقراطية فى شمالى وشرقى سوريا، سيساعد على عودة تهديد تنظيم داعش مجددًا.
هذا نراه جليا اليوم، فى فوضى واسعة تضرب بلدات الشمال السورى، منها الموجه ضد تركيا فى المناطق التى تسيطر عليها، ومنها المستهدف تحفيز القوات الأمريكية على الرحيل، وآخر يحاول حجز مكان له فى الفراغ القادم الذى يتحسب منه سكان تلك المناطق، حيث بدأوا يختبرون المبارزة المميتة يوميًا فى الشوارع، وعلى الطرقات السريعة الواصلة بين بلدانهم.