رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الشخصية التاريخية.. خرافة الأبيض والأسود



بدأ النقاش هادئًا مع مجموعة من الأصدقاء على مائدة العشاء. ولأن معظمهم من جيل السبعينات، أى الجيل الذى أمضى سنواته الجامعية فى سنوات السبعينات، تطرق الحديث إلى ذكريات ذلك الزمان، وكان الهجوم الحاد على أنور السادات، شخصه وسياساته. وطلب منى أحد الأصدقاء تقديم تقييم تاريخى للسادات. وقبل أن أبدأ تبرع وتسرع صديق آخر بالقول: طبعًا السادات ابن «...»، عفيفى هيقول كده، مش كده يا عفيفى؟.
صعَّب الأمر علىّ؛ هل أوافق غالبية الأصدقاء على رأيهم، وهم أبناء المرحلة الساداتية؟، أم أقول رأيى كمؤرخ، وفى هذه الحالة سأدخل فى نقاش حاد مع الأصدقاء، ويضيع أُنس الليلة بسبب التاريخ؟.
بدأت بشرح أن كل شخصية تاريخية لها سلبيات وإيجابيات، وأن حتى مصطلح سلبيات وإيجابيات مختلف عليه، فما يراه البعض إيجابيات، على سبيل المثال مبادرة السلام، يراه البعض الآخر سلبيات، بل يصل الأمر بالبعض إلى وصمه بالخيانة الوطنية، لذا فالشخصية مختلف عليها حسب موقعك، ومعاصرتك للحدث، بل ربما حسب اتجاهك السياسى أو حتى المذهبى. رد أحد الأصدقاء فى حسم غريب: السادات محدش يختلف عليه، ده ضيَّع البلد. ازداد النقاش تعقيدًا، حاولت أن أُهدئ الأجواء قليلًا لنتناقش حول السياسات، ونخرج من التعميمات، قلت: ولكن يُحسَب للسادات مرونته وقدراته السياسية. فرد علىّ آخر: الكذب تسميه مرونة وقدرات سياسية؟!، كان السادات كذوبًا. هنا كان علىّ أن أتخلى عن دبلوماسيتى المعهودة، وأرد بسلطة المؤرخ قائلًا: لغة المؤرخ ترفض استخدام كلمات مثل ابن... أو أحقر أو أفضل أو كاذب أو صادق، الأحكام القيميَّة لا تنطبق على الشخصية التاريخية، الشخصية التاريخية تلعب سياسة، والسياسة فن الممكن، وليست هناك محكمة فى التاريخ، لأنه ببساطة: منْ يُنصِّب نفسه قاضيًا، وما هو قانون المحكمة؟.
رد علىّ أحد الأصدقاء: وإذا لم يقل التاريخ كلمته ويُصدر حكمه على الشخصية، من الذى يقوم بذلك؟.. قلت له: ليست هناك كلمة نهائية فى التاريخ، التاريخ وجهات نظر. رد علىّ صديق آخر: يكفى السادات أنه هو الذى بلى مصر بتحالفه مع التيار الإسلامى، وضربه اليسار المصرى، هذا الأمر وحده كفيل بإلقاء السادات فى مزبلة التاريخ!.
ضحكت بشدة من عبارة «مزبلة التاريخ» وقلت له: بس قُل لى فين مزبلة التاريخ علشان أروح أرمى فيها اللى ما يعجبنيش؟. نظر إلىّ صديقى متعجبًا من ردى. لكنى سألته مرة أخرى: لأ بجد هو فى حاجة اسمها مزبلة التاريخ؟، وبعدين هى فين؟، وأكملت: صديقى، هذه تعبيرات مجازية نقولها ليس لها محل من الإعراب. رد علىّ هذا الصديق: طيب قول لنا رأيك إيه فى السادات، حلو ولا وحش؟. قلت له بحزم: مفيش حاجة فى التاريخ اسمها حلو ولا وحش، دى مش واحدة هتتجوزها!، الشخصية التاريخية تخرج من تصنيف الأبيض والأسود. هاج صديقى قائلًا: لأ، حدِّد موقفك، عايز رأى قاطع فى السادات. هنا قلت له: الرأى القاطع يعنى انحيازًا، والمؤرخ يتجنب إلى حد ما الانحيازات الكبرى، رغم إيماننا ببشرية المؤرخ، ولكنه على أية حال يحاول الالتزام بالموضوعية. تدخَّل صديق آخر قائلًا: يكفى السادات عارًا موقفه من اليسار المصرى. قلت له: أفهم أن السادات كان موقفه براجماتيًا من اليسار المصرى، لكن لا يمكن اختزال الشخصية التاريخية فى موقف واحد، أو حدث واحد، لأنه بنفس المنطق سيرد عليك أنصار السادات بأنه بطل العبور وحرب ٧٣. قال صديق آخر: لكن السياسة خانت المدافع كما قال هيكل عن السادات والتفاوض مع إسرائيل. قلت: بنفس المنطق سيرد أنصار السادات بأنه بطل الحرب والسلام، انتصر فى الحرب، وانتصر فى مفاوضات السلام واسترد سيناء. رد صديقى بحسم قائلًا: يعنى عايز تقول السادات حلو؟، ضحكت حتى كدت أن أستلقى على ظهرى وقلت: أبدًا، أنا عايز أقول إن العشاء هو اللى وحش!. وانتهت الليلة.