رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«حضن المنصورة».. لماذا نكره المحبة؟



لم أشهد فظاظة فى التعامل مع أحلام الشباب، أو نزوات ونزق ربيع العمر، قدر ما رأيت فى موضوع «حضن المنصورة»، الذى أثار فى الثانى من يناير الحالى ضجة وأصبح مادة للغضب والتعليقات والحوار.
فجأة تبين أن «القبلة»، و«المحبة»، و«باقة الزهور» جديرة بالكراهية!، بل الرغبة فى معاقبة العشاق، وتأديبهم، مع أن الحب فضيلة الحياة الأولى والأخيرة، نولد به، وبفضله تستمر الحياة. ألم يخلق الحب أجمل القصائد والأغانى واللوحات والأعمال الأدبية؟، أليس من الحب قال بابلو نيرودا: «أريد أن أكون لك كما يكون الربيع للأزهار»؟!.
فكيف أمست كراهية المحبة حرفة اجتماعية عندما ركع طالب شاب على ركبتيه وبيده باقة ورد داخل حلقة من بالونات ملونة، ليعلن لزميلة له حبه ويطلب يدها فى حضور الأصدقاء؟، كان ذلك فى حوالى الثانية عشرة ظهرا من الثانى من يناير الحالى عند كافيتريا «تيستى» بجامعة المنصورة. وراح الأصدقاء يدفعون الفتاة من ظهرها ناحية الشاب العاشق الراكع بباقة الورد، وحين وصلت إليه نهض واحتضنها ودار بها فى الهواء بين تصفيق وفرح الأصدقاء. نزوة جميلة؟، نزق؟، جموح؟، تمنى الشاب لو تماهى مع مشهد رومانسى متكرر يركع فيه العاشق ويرفع الورد لحبيبته.
ما المشكلة فى ذلك؟، أليس الشباب سن الغرام وتحطيم التقاليد؟، والحلم؟، فى كل الأحوال هى لحظة حب لا أكثر ولا أقل، فكيف تعامل المجتمع مع أحلام الشباب؟. قام رئيس جامعة المنصورة د. أشرف عبدالباسط بإحالة الطالب محمود إلى مجلس تأديب بكلية الحقوق، وأعلن سيادته أنه سيتم توقيع العقوبة على الطالب، والتى قد تصل إلى الفصل من الجامعة.
وتداول رواد مواقع التواصل الاجتماعى تسجيلا مرئيا للحظة الورد، وألقى عدد كبير منهم على الشابين العاشقين محاضرات مطولة عن الأخلاق، والقيم، وما شابه، وتحدث التربويون فى البرامج التليفزيونية عن الموضوع بأفواه مليئة بالحكمة والجلافة، وذكروا الفتاة بضرورة أن تحترم نفسها!، ولم يفكر أحد، لا من عمداء الكليات، ولا من التربويين، ولا غيرهم، أن الموضوع فى جوهره لحظة حب جرفت شابا تمنى لو يزهو بنفسه حاملا باقة ورد، معلنا حبه على مرأى من الجميع!. وكنت أتصور أن يستدعى العميد الشابين ويقدم لهما قدحين من الشربات، ويهنئهما بالحب، ثم يذكرهما أن الكلية ليست ساحة إعلان العواطف الخاصة، وتنتهى القصة عند هذا الحد.
لكن الغضب الاجتماعى، الذى اشتعل كان مؤشرا على أننا نكره الحب، نحن الذين لا نحرك ساكنا عندما نعبر قرب طفل جائع تحت كوبرى، تهزنا بعنف لحظة الورد. نحن الذين لم نهتز ولم يطالب أحد منا بإحالة الشيخ برهامى لمجلس تأديب حين أعلن من أيام أن تهنئة الأقباط بأعيادهم حرام!، وعندما تضخمت القصة فى وسائل التواصل، صرخ محمود رمضان الطالب العاشق: «حرام عليكم.. فضحتونا»!، أى قضيتم علينا!. وهو ما حدث عندما تم تصوير أجمل المشاعر على أنها عار وذنب وجريمة!. يذكرنى ذلك بقصة للكاتب الروسى أنطون تشيخوف، وصف فيها شابين عاشقين توقفا عند بستان أحد الإقطاعيين وجلسا عند شجرة تفاح، وهناك مد الشاب يده فقطف تفاحة لحبيبته، وتصادف مرور الإقطاعى، صاحب الأرض، فوضع الفتى بين خيارين: إما السجن بتهمة السرقة أو أن يقوم الفتى بجلد حبيبته بنفسه!. يجلد الفتى حبيبته بغصن كما طلب الإقطاعى، ثم يسير كل منهما مطاطئ الرأس فى طريق مبتعدا عن الآخر، بعد أن حطمت القسوة المحبة والكرامة، ولم يعد ممكنا للفتى أن ينظر فى عينيها ولا ممكنا أن تنظر فى عينيه. لقد حطمت زهرة الحب بيد الجهل والجلافة.
وها هى قصة تشيخوف تتجدد فى المنصورة بعد أكثر من مائة عام، وثانية تسحق الجلافة بقدميها الغليظتين لحظة الورد. الآن أتصور كيف أمست علاقة المحبة بين الشابين فى المنصورة شعورا عكرته مرارة الإهانة والتحقير والتأديب والاعتذار والتبرير!، لعل المشكلة كلها فى ذلك الضمير الاجتماعى الذى ينحدر فلا يرى من الإنسان سوى نصفه الأسفل، ولم يعد يرى عقل الإنسان وروحه، الضمير الذى يؤرقه مشهد الورد بين يدى عاشق، ولا يهتز عندما يصرح ياسر برهامى، رئيس الدعوة السلفية، بأن تهنئة الأقباط بأعيادهم حرام!، ولا يطالب بإحالة برهامى إلى مجلس تأديب يحقق فى نشر الكراهية بين أبناء الوطن الواحد!. الضمير الذى لا يغضبه منظر طفل جائع تحت كوبرى، لكن يجن جنونه من رقصة شاب بحبيبته عشقا وفرحا!. ولا أظن أننا سنرتقى إلا بارتقاء ذلك الضمير الاجتماعى من أسفل إلى أعلى، من اللحم إلى الروح، ومن العظام إلى رجفة العقل الشاعرة، ومن التراب إلى قبة السماء الفسيحة.