رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«بيلا تشاو».. غنوة الحرية فى باريس



الانتفاضة الفرنسية التى بدأت منذ أكثر من شهر ما زالت مستمرة، وهى تعكس ليس فقط مطالب الشعب الفرنسى الخاصة، لكنها تعكس أيضا الشعور العالمى بالقلق من سقوط كوكبنا الأرضى فى قبضة الظلم والمعاناة ونظم الجباية والسجون.
بعض أرقام منظمات الأمم المتحدة توضح أننا نحيا فى محيط من الفقر المدقع تسبح على سطحه جزر قليلة من الثراء الفاحش. هناك أربعة وثلاثون مليون إنسان يملكون نصف ثروات العالم!، بينما يرزح ستة مليارات من البشر تحت وطأة الفقر الشديد. أكثر من نصف سكان العالم لا يستطيعون العلاج إذا مرضوا بسبب الفقر.
عدد الأطفال الكادحين فى أسواق العمل نحو أربعمائة مليون طفل، تسعون بالمائة منهم فى قارتى إفريقيا وآسيا، حياتهم شقاء من الصباح إلى الليل. وإلى ما قبل سقوط الاتحاد السوفيتى عام ١٩٩٠، كان يبدو أن الصراع بين النظم الاشتراكية والرأسمالية هو سبب التدهور، لأن مقدرات البلدان تضيع فى نفقات ذلك الصراع، لكن الآن، وبعد مرور نحو ثلاثين عاما على زوال الاتحاد السوفيتى، يرى الجميع أن صورة عالمنا ما زالت كئيبة، وأننا لم نعرف الطريق إلى العدالة، وأن السبب فيما ما يجرى حولنا هو أزمة الرأسمالية العالمية التى لم يعد لديها ذريعة تبرر بها استمرار الإفقار والمعاناة.
وقد شغلت فرنسا تحديدا على امتداد تاريخها موقعا خاصا فى الشعور بقلق العالم والتعبير عنه بدءا من ثورتها الكبرى التى امتدت من ١٧٨٩ حتى ١٧٩٩، وفتحت بها للعالم أجمع أبواب تقويض الإقطاع وتأسيس الجمهوريات والديمقراطيات الحديثة والعلمانية، كما رسخت شعار العالم المعاصر «حرية، إخاء، مساواة» مما جعل عددا كبيرا من المؤرخين يعتبرونها من أهم الأحداث فى تاريخ البشرية.
وبعد ذلك فى ١٨٧١ قامت فى فرنسا «كوميونة باريس» أول انتفاضة عمالية واعية فتم فصل الدين عن الدولة، ووقف تحصيل الأموال لصالح الكنيسة، وإلغاء الرموز والصور الخاصة بمختلف العقائد الدينية فى التعليم، وتنشر فرنسا فكرة الاشتراكية، بعد أن نشرت فى ثورتها الكبرى السابقة تقويض الإقطاع وإقامة الديمقراطيات الحديثة، وفى عام ١٩٦٨ تهب انتفاضة الطلاب فى باريس لتحرك من حولها حركات طلابية فى العالم أجمع، والآن يحتشد أصحاب السترات الصفراء، وينتقلون من مطالب اقتصادية تتعلق بمعيشة الشعب الفرنسى، كالأجور، والضرائب، والسكن، إلى مطالب سياسية عامة، تعكس فى واقع الأمر الأزمة العالمية؛ أزمة الرأسمالية التى تمسك بخناق سكان الكرة الأرضية فى كل ناحية. وتقف فرنسا التى لسبب ما تشعر بقلق العالم أكثر من سواها، تنتفض، وتحتشد فى باريس دفاعا عن أحلام العالم بالحرية والعدالة، وفى خضم الاشتباكات مع الشرطة، وبين دخان قنابل الغاز، تمسك شابة فرنسية بكمان وتعزف «بيلا تشاو» فيغنى الحشد بصوت كالرعد: «أوصيك يا جميلتى إن مت وأنا أقاوم، أن توارينى الثرى فى أعالى الجبال، فى ظل زهرة جميلة، يمر الناس أمامها ويقولون ما أجمل هذه الزهرة، زهرة المناضل الذى استشهد من أجل الحرية. وداعا يا جميلتى وداعا. بيلا تشاو»!.
وهى أغنية إيطالية ظهرت فى أربعينيات القرن الماضى خلال تصدى الشعب الإيطالى للفاشية، وقد ظهرت نسخ عربية من الأغنية ذاتها، سورية، وفلسطينية، ولبنانية، لأن الحلم بالحرية والعدالة ينتقل بأغنياته من أرض إلى أخرى، ويسرى كالنور فى الهواء، لأنه حلم عريق، ولأن كل المخلوقات، على حد قول الروائى العظيم جون كوتزى: «تأتى إلى العالم حاملة معها ذكرى العدالة»، تلك العدالة التى عرفتها البشرية فى طفولتها قبل ظهور المجتمعات الطبقية وظلت فى وجدانها.