رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مصر تنجح فى «72 ساعة» مهمة من عمر الإقليم


قبل ٧٢ ساعة فقط من عمر الختام الناجح والأبرز لمصر، على صعيد ملف شائك ومسكون بالألغام المزمنة، لم يكن أحد من المعنيين يساوره أى قدر من التفاؤل، أو قادر على استحضار مشاهد ما يمكنها أن تغير معادلات الواقع المأزوم. فقد كان اشتعال الوضع فى غزة على غير توقع من مسار الأحداث التى سبقته، يترجم حالة من الانقسام العميق فى الرؤى بين الأطراف الإسرائيلية المعنية بإدارة التعامل مع غزة.
ففى الوقت الذى كان الجناح السياسى، يرتب ملامح تهدئة فى القطاع مع العديد من الأطراف، تمثلت فى السماح بدخول الوقود إليه، وإفساح المجال أمام الأموال القطرية كى تبرد حدة الاحتقان المعيشى للسكان. قاد رئيس الأركان الإسرائيلى مغامرة مفاجئة بتنفيذ عملية اغتيال، بالقرب من خان يونس مستهدفًا أحد قيادات «كتائب القسام» ومرافقيه، وهناك ترجيح إسرائيلى كان يتحدث عن خطة لعملية اختطاف، كان «جادى أيزنكوت» قد حصل على موافقة تنفيذها من ليبرمان فقط!
حققت العملية نجاحًا جزئيًا، مع تكبد القوة المهاجمة خسائر فى الأرواح، عندما بادرت قوة من فصائل المقاومة فى الاشتباك مع المجموعة الإسرائيلية، أوقعت فى صفوف الأخيرة ضابطًا وجنديًا ومجموعة من الجرحى. ليتدخل على أثر ذلك الطيران الإسرائيلى «مجبرًا» فى هجوم مكثف، إنقاذًا لهؤلاء العالقين، ولضمان عدم أسر أحد منهم داخل القطاع. وانزلق المشهد بعدها إلى هذا التصعيد الذى فرض نفسه، ربما عن غير رغبة الأطراف، أو على الأقل بهذه الآلية والتوقيت وغيرها من الاعتبارات الأخرى. وليدر هذا الفصل على خلفية التعجل، ومحاولة تحقيق كل طرف مكاسب قد تعينه أو تصحح من موقفه فيما بعد. بدت فصائل المقاومة الفلسطينية على درجة مميزة من التنسيق فيما بينها، وكشفت عن جاهزية معقولة، تمثلت فيما أطلقته من دفعات الصواريخ باتجاه الجنوب الإسرائيلى. وأظهرت قدرة تنفيذ عمليات نوعية، باستخدامها لـ«الكورنيت» فى إحدى العمليات التى تمكنت من تصويرها، لتحصد بجانب حافلة الجيش الإسرائيلى حالة معنوية إيجابية لدى صفوفها، وتصدر للقابعين فى ملاجئ الجنوب الإسرائيلى قدر لا يُستهان به من الإحباط والتوتر.
فى المقابل، لم يكن أمام الجيش الإسرائيلى سوى تنفيذ عمليات قصف جوى أو صاروخى، باتجاه بنك أهداف «مؤثر» معد سلفًا بمعرفة الاستخبارات العسكرية، فى محاولة للحفاظ على ثقة المدنيين الإسرائيليين، وتشكيل لظهير عملياتى يتساند عليه رئيس الأركان ومن خلفه وزير الدفاع. وبالفعل جاء القصف المؤثر باتجاه «قناة الأقصى» الوكالة الإعلامية الرسمية لحماس، ومن بعدها مركز أمنى تابع لاستخباراتها يمثل (safe house)، يفترض أنه على درجة عالية من السرية. فى رسالة مباشرة بأن بنك الأهداف جاهز لدى الإسرائيليين بقائمة مؤثرة، أفصح الجيش الإسرائيلى أنه يمكنه المضى قدمًا باستهدافها تباعًا فى حال تمدد المشهد النيرانى على الأرض.
منذ لحظات الانزلاق، غير المحسوب، الأولى، كانت مصر ترصد بدقة حالة الانقسام الحاد داخل الحكومة الإسرائيلية، ففضلًا عن التباين فى مسار السياسيين، الذين كانوا يراهنون على تعميق الهوة ما بين رام الله وغزة، خلال الفترة المقبلة بحزمة من الإجراءات تسهم فى دفع غزة بعيدًا عن أى تقارب، كان العسكريون يسيرون فى اتجاه مغاير تمامًا، وربما كانت العملية الأخيرة تجسيدًا كاشفًا لهذه الحالة. هذا التباين اقتحم أيضًا المجلس الوزارى الأمنى (الكابينت)، أمام سؤال المضى قدمًا فى العمل العسكرى أم التوقف من دون تحقيق شىء حفاظًا على المسار الذى كان قد بدأ من قبل. الوساطة المصرية عمقت هذا الانقسام مباشرة، باختيارها التوقيت الصحيح والضرب على الأوتار الساخنة فيما أعلنته، وفيما أشارت إليه فى محادثاتها مع الجانب الإسرائيلى.
أشارت مصر إلى ضرورة وقف العدوان الإسرائيلى فورًا، وأدانت استخدام العمل العسكرى ضد قطاع غزة، مؤكدة، بعبارات واضحة، أن لجوء فصائل المقاومة للرد الصاروخى والعمل المسلح سيكون حق دفاع عن النفس، قد يكون مقبولًا ومتفهمًا من الجانب المصرى على الأقل، وكشفت الوكالات الإسرائيلية عن هذه الرسائل التى بعث بها الرئيس السيسى إلى نتنياهو، فى ساعات تصاعد الأزمة، كاشفة عن حجم الضغوط المؤثرة التى تلقاها رئيس الوزراء الإسرائيلى، والتى وصفتها هيئة البث العبرية «كان» أنها وضعت نتنياهو أمام خيار وحيد، تمثل فى ضرورة الوقف الفورى للعمل العسكرى ضد قطاع غزة. ما دفع الجانب الإسرائيلى، مساء الثلاثاء، إلى اتخاذ القرار بالاستجابة، رغم اعتراض أربعة وزراء على الأقل ممن حضروا داخل (الكابينت)، هم وزير الدفاع أفيجدور ليبرمان، ووزيرة العدل أييليت شاكيد، ووزير حماية البيئة زئيف إلكين، ووزير التربية والتعليم نفتالى بينيت. حيث اعتبر هؤلاء أن قرارًا على هذا الشكل والنتيجة، يعتبر خضوعًا لما تمت ممارسته من ضغوط رئاسية مصرية، وتجاوزا فى حق معادلة الأمن الإسرائيلى المتفق عليها، خاصة بعد أن جرى إطلاق أكثر من ٤٦٠ صاروخًا وقذيفة هاون باتجاه جنوب إسرائيل، على مدى ٢٥ ساعة يومى الإثنين والثلاثاء، اعترضت منظومة الدفاع الجوى «القبة الحديدية» أكثر من ١٠٠ منها، لكن الباقى منها سقط فى مناطق مفتوحة، داخل المدن والبلدات الإسرائيلية، ما أسفر عن مقتل أشخاص وإصابة عشرات آخرين، فضلًا عن إلحاق أضرار جسيمة بالممتلكات.
أصدرت الفصائل وبينها حركة حماس بيانًا مشتركًا، قالت فيه: «إن جهودًا مصرية مقدرة، أسفرت عن تثبيت وقف إطلاق النار بين المقاومة والعدو الصهيونى، والمقاومة ستلتزم بهذا الإعلان ما دام التزم به العدو الصهيونى». فى الوقت الذى شهدت فيه مستوطنات الجنوب الإسرائيلى، وبعض من المدن التى طالها القصف، مظاهرات حاشدة وإحراقًا لإطارات وقطعًا كاملًا للطرقات، مطالبين بالاستمرار فى الحرب على غزة. وهذا دفع نتنياهو إلى الخروج، صباح الأربعاء، مدافعًا عن قراره بوقف إطلاق النار مع غزة، فى مواجهة تلك الانتقادات التى تواجهه من داخل الحكومة ومن الشارع، بقوله: «فى أوقات الطوارئ عند اتخاذ القرارات الحاسمة للأمن، لا يمكن للجمهور أن يكون دائمًا مطلعًا على الاعتبارات، التى يجب إخفاؤها عن العدو».
لكن وحتى كتابة تلك السطور، لم يفق الجانب العسكرى الإسرائيلى من الزلزال الذى تمخضت عنها الأحداث، ومشهد النهاية الذى لم يكن متوقعًا فى أسوأ تقديراته. للحد الذى سادت فيه طوال الساعات الماضية من صباح الأربعاء، صخب وجدل كبير حول تقديم وزير الدفاع الإسرائيلى لاستقالته، وربما تصحبه مجموعة من القيادات العسكرية، بل هناك اتجاه قوى يدفع ليبرمان لأن يقوم بسحب وزرائه من الائتلاف الحكومى، ليسقطها بغرض الاتجاه لانتخابات حتمية لم يكن أحد يتصور أن يصل إليها. ووسط هذا المشهد المعبأ بعشرات الاحتمالات والتداعيات، تبقى المسارات خاضعة لما سيقوم به الوفد الأمنى المصرى الذى وصل تل أبيب، صباح الأربعاء، لتثبيت الأوضاع ووضع سياق القادم من الأحداث على مسار الرؤية المصرية التى تمكنت من إنفاذها، وسط تجاذبات عنيفة وضغوط وتعقيدات تمكنت ببراعة من التعامل معها بحنكة، وتجعلها مستقبلًا قادرة على فرض تصحيحات مؤثرة، داخل طيات الملف فى شق منه على الجانب الفلسطينى الفلسطينى، وهو الأعقد، وفى شق آخر على صعيد الهجمة المتسارعة المسماة بـ«صفقة القرن» وهو الأخطر، لكن مصر تتحرك بدأب وروية أوصلتها إلى إمكانية أن يكون هناك ما يشبه الضوء فى نهاية نفق القضية المظلم.