رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الذئاب إذ تعود إلى قلب تونس


تصادف ظهيرة الإثنين الماضى بتوقيت القاهرة، أن كنت داخل إحدى قاعات البحث الأكاديمى، مدعوًا لإلقاء محاضرة مطولة، بعنوان «الذئاب المنفردة.. طبيعة ومستقبل هذا التكتيك الإرهابى». والعنوان دفعنى للشرح المستفيض نسبيًا، والذهاب من جانبى إلى أن هذا النمط من العمل الإرهابى، ربما تابعناه خلال السنوات الماضية فى فترة توهج التنظيمات بالمنطقة، تحديدًا فى رحلة صعودها إلى نقطة الذروة «داعش بالأخص». لكننى آسفًا لم أحمل للحضور خبرًا سعيدًا، بأن ظاهرة «الذئاب» رغم إزاحة التنظيمات عن ذروة توهجها، ودفعها فى مناطق عدة لبدء رحلة أفولها. لن يكون هذا إيذانًا بمرحلة اختفاء الذئاب الإرهابية الهائمة، فمرونة «تكتيك» عمل الذئاب المنفردة ترشحه بقوة لأن يظل سلاح التنظيمات المفضل، باعتباره دون شك الأقل كلفة بالنسبة لها وفى المقابل هو الأصعب على الأجهزة الأمنية.
خلال الدقائق الأولى من فترة الاستراحة، دقت على نحو مفاجئ «عواجل» الهواتف المحمولة لدى الحضور، معلنة حدوث تفجير انتحارى قامت به سيدة تونسية، فى شارع الحبيب بورقيبة فى قلب تونس العاصمة. ليحتل الحدث بالطبع دقائق الاستراحة القصيرة، ويقتحم مناقشاتنا على نحو يربط ما كنا نتحدث عنه بالداخل، مع تلك المفارقة المؤسفة التى استولت على مجمل القسم الثانى من المحاضرة. ذكرت للحضور الذى شعر بإثارة وتوتر جراء المفارقة، أننى سأزيدهم من الأجواء التى صارت تلفهم، بأننى من شهور قليلة مضت كنت على بعد أمتار من موقع هذا الحادث، فى ذات الشارع أشارك فى مؤتمر بحثى، معنى بمستقبل تهديدات الإرهاب على دول الساحل والصحراء، تنظمه مؤسسة تونسية دعت ممثلين لكافة تلك الدول العربية والإفريقية. وقد لفت انتباهى حينها أن المتخصصين التونسيين يغلب عليهم التوجس، وعدم الارتياح من مستقبل التهديد الإرهابى. ولم يخف معظم خبراء الدول الأخرى تشاركهم مع الحضور التونسى، فى ذات الشعور بأن المنطقة المشار إليها حبلى بمستقبل أمنى غامض، حيث يغلب على إشارات القادم نذر من الصعب التكهن بامتداداتها.
لم تخلف «منى قبلة» التونسية ذات الثلاثين عامًا، هواجسنا وتوقعات القادم فى المنطقة بأسرها ربما، عندما فجرت نفسها فى دورية أمنية كما يشير البعض، بالنظر إلى عدد الإصابات الكبير التى طالت عناصرها. وآخرون رأوا أن قرار تنفيذ العملية بهذه النقطة تحديدًا، من وسط وقلب العاصمة، وحده يكفى كدلالة ولا يخلو من رمزية، على عمق الرسالة التى حملتها المواد الناسفة. وأنا مع هذا الأخير، خاصة بعد أن طالعت تصريح الرئيس التونسى قائد السبسى، وهو يقول بوضوح فى نفس يوم العملية: «كنا نعتقد أنه تم القضاء على الإرهاب، لكن نحن نأمل فى ألا يقضى الإرهاب على تونس. خصوصًا أن المناخ السياسى سيئ جدًا». كلمات الرئيس التونسى المؤلمة، ملغمة، رغم إيجاز وضوحها المباشر تجاه مصدر الخطر الحقيقى. فهل المناخ السياسى ومن خلفه الإرهاب قادران على الوصول بتونس إلى هذا السقف العالى من المخاوف، الواردة بتعليق الرئيس ولم يتكفل ـ حتى ـ مشقة إخفائه عن وسائل الإعلام.
فى محاولة تقدير لارتفاع هذا السقف، لا يسعنى تجاهل مجموعة من الأحداث قد تكون الأقرب لتفسير عودة الذئاب لتمرح مرة أخرى بالقرب ـ جدًا ـ من أعصاب النظام، وعلى تماس مباشر مع خطوات الجمهور التونسى الذى يسعى على مدار الساعة، فى أركان وعلى أرصفة شارع الحبيب بورقيبة. تزامن التفجير الانتحارى مع جلسة عاصفة للبرلمان التونسى، حيث جرى فيها للمرة الأولى استجواب وزير الداخلية هشام الفراتى، عن المعلومات الأمنية الخاصة بوجود تنظيم سرى عسكرى لحركة النهضة «إخوان تونس». ووضع نواب البرلمان أمام الوزير ما أثير مؤخرًا من أن هذا التنظيم، أخذ على عاتقه القيام بعمليات إرهابية نوعية، لها علاقة وثيقة بما أطلق عليه «تصفية الخصوم»!.
هيئة الدفاع عن السياسيين «شكرى بلعيد» و«محمد البراهمى»، وكلاهما راح ضحية عملية اغتيال جريئة وغامضة، الأول فى فبراير ٢٠١٣ والآخر فى يوليو من العام نفسه. هيئة الدفاع عنهما كانت قد أصدرت بيانًا قبل يوم واحد، من عملية التفجير بوسط تونس، ذكرت فيه أن «حركة النهضة» تمارس ضغوطًا متزايدة على الأمن والقضاء، لطمس حقيقة وجود تنظيمها السرى. معتبرة أن هناك من الأطراف بداخل تونس، المرتبطة بالحلف القطرى التركى، لا تزال حتى الآن تستثمر فى الجماعات الإرهابية ليس فى تونس وحدها، بل فى الشمال الإفريقى بأسره. وهذا ما دفع شريحة من المراقبين التونسيين إلى الوصول ليقين أن التعاون الأمنى بين عناصر وزارة الداخلية مفقود إلى حد كبير، وهذا يشل حركتها وتسبب فى فجوات حقيقية، حيث بدا ذلك من عجزها فى بعض المواقف عن القيام بمهامها، وأن حجم الثقة فى قدراتها يتآكل فى الشارع نتيجة سيطرة جهات ما عليها. وهذا ما فتح الطريق، أمام طرح الاستجواب الذى خضع له وزير الداخلية مؤخرًا.
ما لا يريد المراقبون والأطراف الخارجية الاعتراف به، أو رؤيته على الأقل، أن هناك سعيًا حثيثًا منذ العام ٢٠١٣، لشق الدولة التونسية بمعرفة «حركة النهضة» وفق المشروع الإخوانى فى المنطقة بأسرها. تنفذه عبر أذرعتها السياسية داخل الانتخابات والائتلافات الحكومية وغيرها، لكنها لم تتخل يومًا عن ذراعها المسلحة «المباشرة»، و«غير المباشرة» عبر رعاية سرية لتنظيمات أو عناصر من تنظيمات أخرى، قد يكون البعض منها خارج تونس، لكنها تظل جاهزة طوال الوقت للدفع بأحد «ذئابها» أو مجموعاتها الصغيرة، لتنفيذ عمليات بعضها لضرب السياحة، وأخرى ضد قوات عسكرية أو أمنية بالأطراف الحدودية. واليوم فى عملية «شارع الحبيب بورقيبة» تحرك أحد عناصرها النائمة، بعد أن خطط المحرضون مسبقًا أن المشهد العام تلزمه، آلية مبتكرة لتنفيذ تفجير على هذا القدر من النفاذ، من أجل الوصول للقلب وإصابته مباشرة.