رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

د. عادل أبوزهرة.. الأنشودة العذبة للقيم الإنسانية النبيلة


فى ٣١ أكتوبر ٢٠١٨، تحل الذكرى السنوية الخامسة عشرة لرحيل الأخ والصديق والزميل والإنسان رقيق المشاعر د. عادل أبوزهرة (١٩٤٨- ٢٠٠٣) صاحب المواقف المشهورة فى مجالات المحافظة على البيئة والتنمية الثقافية وحقوق المرأة وحقوق الإنسان. فى ٢٠ نوفمبر ١٩٤٨ وُلد عادل أبوزهرة، حيث نشأ فى عائلة كان للأم فيها دور مهم فى ترسيخ مبادئ المشاركة فى نفوس أولادها، فكان نجلها عادل يُحضر لها فى بعض الأحيان بعض الحلوى، فكانت هذه الأم الرائعة تحتفظ بها حتى يجىء أحد ويشاركها فى تناولها!، وكانت تعلّم أولادها أن أى شىء فى أيدينا يصير مصدر سعادتنا عندما نشاركه الآخرين، وهذه سمات حياة «العطاء» التى يجهلها الكثيرون فى أيامنا هذه. هذا المبدأ الإنسانى السامى تغلغل فى نفس الطفل والشاب عادل أبوزهرة حتى صار حجر الزاوية فى عمله الوطنى وأعماله الإنسانية وحياته اليومية.
فى عام ١٩٦٥ أنهى عادل أبوزهرة دراسته بالمرحلة الثانوية، والتحق بكلية الآداب جامعة الإسكندرية ومنها حصل على ليسانس الآداب فى عام ١٩٦٩، وفى عام ١٩٧٤ حصل على ماجستير فى الآداب تخصص «سلوكيات» ثم فى عام ١٩٧٨ حصل على الدكتوراه فى نفس التخصص. وخلال الفترة (١٩٧٨- ١٩٨٣) عمل محاضرًا فى مادة «علوم السلوكيات»، أخذ يتدرج فى السلك الأكاديمى حتى عام ١٩٨٨ حينما صار أستاذًا. قام بالتدريس فى معهد البحوث التربوية، وكلية الآداب، والأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا بالإسكندرية، والدراسات العليا بكلية الفنون الجميلة بالإسكندرية وأيضًا بكلية العلوم بالإسكندرية، كما شارك فى تأسيس قسم الإنسانيات بالأكاديمية العربية للعلوم والتكنولوجيا. ومن مواقفه الشُجاعة بمدينة الإسكندرية أذكر الوقائع الآتية:
(١) فى عام ١٩٩٠ قاوم قرار محافظ الثغر فى منح شارع جانبى بجوار هيئة الصحة العالمية بالإسكندرية ليُضم إلى ممتلكات الهيئة ولا يتمتع به المواطن السكندرى، وتم التراجع عن القرار.
(٢) عندما قامت إحدى شركات البناء بمحاولة هدم المنزل الذى عاش فيه فترة الكاتب القدير «لورانس داريل» ظل يقاوم هذا العمل الهدام حتى استطاع أن يحافظ عليه ويحوله إلى أحد المقار الثقافية.
(٣) أيضًا فى غيبة من الوعى البيئى- حاولت إحدى الشركات الاستثمارية التخلص من حدائق منطقة الشلالات القائمة بمنطقة باب شرق، وذلك بغرض بناء أبراج سكنية واستطاع عادل أبوزهرة- بحكم قضائى- إيقاف هذا العمل المدمر.
(٤) حارب بشدة من أجل تنظيف بحيرة مريوط وأيضًا ترعة المحمودية.
(٥) وقف بقوة أمام المشروعات الأمريكية التى كانت تهدف إلى تفريغ «الصرف الصحى» فى البحر المتوسط، ما أدى إلى تلوث البحر وصارت شواطئ الإسكندرية خالية من المصطافين، ما أثر على الحالة الاقتصادية للمحافظة. وفى جهاد وطنى مخلص أمكن إيقاف هذه المشروعات الاستثمارية الهدامة والمُدمرة.
(٦) قاوم بشدة المبانى الخاصة المُقامة على كورنيش الإسكندرية الجميل، ما كان يحجب الرؤية عن المواطن العادى الذى من حقه- كمواطن مصرى- أن يتمتع بممتلكات الدولة ولا تكون حكرًا على قطاع خاص من طبقات الشعب. ولكن للأسف الشديد بعد رحيل صديقنا الكريم، استغل أصحاب النفوذ والسطوة ومعدومو الضمير نفوذهم وأقاموا العديد من المنشآت الخاصة على طول كورنيش الإسكندرية، وأصبح الشاطئ الخاص يتمتع به عدد قليل من أفراد الشعب، بينما الأغلبية محرومة من ذلك. فى كتاباته المتنوعة سعى إلى تحسين نوعية الحياة فى مصر وذلك بتوفير الحاجات الأساسية للإنسان من الطعام والشراب والملبس والمأوى تلك التى ترتفع بالإنسان فى سلم الإنسانية. كان يعمل على تجميل وجه حياتنا القبيح.
فى يوم الخميس ٢٥ أبريل ١٩٩٦ قامت «جماعة تحوتى للدراسات المصرية» بالإسكندرية بدعوته لإلقاء محاضرة فى الندوة التى عقدتها بقصر ثقافة الأنفوشى فى موضوع «التفكير العلمى والمجتمع المصرى» فتحدث د. عادل أبوزهرة عن التفكير العلمى.. ماهيته.. وأهميته.. ومعوقاته. ومن بين ما ذكره بعض الصور التى تدل على شيوع التفكير غير العلمى فى مصر، ومن بين هذه المظاهر ذكر ما يلى:
(١) أحد الأحزاب السياسية فى مصر دأب خلال الأشهر الأخيرة (من عام ١٩٩٦) على الإعلان من خلال ملصقات حائطية أنه قد افتتح عيادة لعلاج المواطنين من «المس الشيطانى» ومن «السحر والجان»!.
(٢) بعد حرب أكتوبر التى خاضها الجيش المصرى سنة ١٩٧٣ بكفاءة عالية، ومن خلال تخطيط استراتيجى مُحكم، حقق فيها نتائج باهرة، خرجت بعض الصحف ووسائل الإعلام تتحدث عن ملائكة كانوا يحاربون فى صفوف جنودنا، وعن سُحب كانت تظلل هؤلاء الجنود، وعن رصاص عجز عن اختراق صدورهم لأنهم يضعون القرآن الكريم فى جيوبهم!.
(٣) تحدثنا بعض الصحف أحيانًا عن شقق ومنازل فى مدن مصر المختلفة يسكنها الجان والعفاريت، وأن أى شخص حاول السكن فى هذه الأماكن وجد أثاثه وقد ألقى به فى الطريق العام، وأن الصنابير تدفقت منها الدماء بدلًا من الماء!.
(٤) قال أحد المشتغلين بالعلم على شاشة التليفزيون ودون أن يرتجف له جفن إنه يستطيع أن يؤكد أن الطفل المصرى هو أذكى طفل فى العالم!.
(٥) قال أحد الأساتذة إن بقاء المرأة فى المنزل وتفرغها لرعاية الأطفال وإعداد الطعام والعناية بشئون المنزل من وظائفها الطبيعية، أما العمل خارج المنزل فلقد خلق الله الرجل للقيام به!.
هذه صور لبعض ما يشيع فى مصرنا ليس على ألسنة العامة فقط، وإنما على ألسنة بعض من نالوا حظًا وافرًا من التعليم!.
ويذكر د. رشاد منير شكرى- أستاذ الرياضيات وعلوم الحاسب بالكلية الملكية العسكرية بمدينة كينجستون Kingston بكندا- أنه فى عام ٢٠٠١ خصصت الأمم المتحدة جائزة للقائمين بالعمل التطوعى فى أنحاء العالم، وقد اختارت د. عادل أبوزهرة واحدًا من ١٠ أفراد للتأكيد على عملهم المتميز وعطائهم غير المحدود فى مجالات البيئة والمرأة وحقوق الإنسان. وبهذه المناسبة أقامت مكتبة الإسكندرية احتفالية خاصة لهذا التكريم حضرها العديد من أبناء مصر بمختلف مستوياتهم الاجتماعية وانتماءاتهم الدينية.
وقد تُليت العديد من البرقيات التلغرافية التى وصلته وكانت من بينها برقية تهنئة من البابا شنودة الثالث مصحوبة بهدية خاصة من قداسته تقديرًا لدوره الإنسانى بداخل مصر وخارجها، فقد كان بطريركًا رقيق المشاعر الإنسانية ينحاز لمن يتعب فى حقل خدمة الإنسان.. غادر د. عادل أبوزهرة أرض الشقاء والتعب والكذب والنفاق والغش وسوء الأخلاق وموت الضمير إلى عالم متمتع ببيئة نظيفة ستكون دائمًا وأبدًا مصدر سعادته. وطوبى لأنقياء القلب لأنهم يعاينون الله.