رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الانتحار.. الموت فى اتجاهين


بعد نكسة ٦٧ اجتاحت جمال عبدالناصر حالة اكتئاب شديدة. ويقول د. أحمد عكاشة، فى كتابه «ثقوب فى الضمير الاجتماعى»، إن عبدالناصر رفض الاقتراح بأن يفحصه الدكتور عكاشة بصفته طبيبا فى علم النفس ليحدد له العلاج اللازم، ويضيف أن عبدالناصر لم يكن مقتنعا بالطب النفسى. وقد ساد رفض الطب النفسى طويلًا حتى بين المتعلمين، لكن هذا الطب أضحى الآن حقيقة معترفا بها لعلاج الأزمات النفسية التى تقود إلى الانتحار.
لقد تزايدت عندنا حالات الانتحار على نحو فاجع متكرر حتى ليمكن القول إن لدينا حزبا معارضا للحياة، قد يكون أقوى الأحزاب من أولئك الذين يقفون وحدهم على رصيف المترو أو فوق سطح منزل ويديرون ظهورهم للأمل قبل أن يشهقوا شهقة اليائسين الأخيرة. وقد تفشت ظاهرة الانتحار فى الغرب حتى إن رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماى قامت فى ١٠ أكتوبر الحالى بتعيين أول وزيرة فى العالم لمكافحة الانتحار الذى ارتفعت حالاته بنسبة ٦٧٪ خلال ما بين ٢٠١٠ و٢٠١٧! ورصدت أكثر من مليونى دولار سنويا للخط الهاتفى الساخن الذى يقدم النصائح مجانا لمن يفكرون فى الموت.
هذا فى بريطانيا، أما عندنا فتخلو بيانات ودراسات وزارة الصحة المصرية من رصد أعداد المنتحرين، وفى أبريل ٢٠١٨ اكتفت الوزارة بإعلان نتائج دراسة وضع الصحة النفسية بين طلاب المدارس دون توثيق أعداد المنتحرين. لهذا يعتمد الكثيرون على إحصاءات منظمة الصحة العالمية التى تشير إلى أن هناك قرابة ثمانية وثمانين ألف شخص فى مصر ينتحرون سنويا. وتفصح إحصائية صادرة عن المركز القومى للسموم بجامعة القاهرة عن أسباب تفشى تلك الظاهرة وتردها إلى البطالة والعنوسة وتدهور الأحوال الاقتصادية، كما تشير الإحصائية إلى أن عام ٢٠١١ وحده شهد نحو ١٨ ألف محاولة انتحار وصلت إلى مركز السموم خلال العام أغلبها من الرجال.
وحسبما جاء فى كتاب «شهقة اليائسين» للدكتور ياسر ثابت، فإن الفئة العمرية التى تقع فيها معظم حالات الانتحار هى ما بين ١٥ و٢٥ سنة، حيث تصل نسبتها إلى سبعين بالمائة من إجمالى الحالات. ومع أن الأمراض النفسية لا تميز بين الطبقات، ولا بين غنى وفقير، إلا أن أغلب الحالات تظهر بسبب تدهور وضع المريض الاقتصادى، وفى المقابل فإن حجم الرعاية الطبية النفسية عندنا ضئيل ومؤسف. وتبدأ مأساة هذا النوع من الطب بالنقص الهائل فى عدد الأطباء مقابل أعداد المرضى الضخمة، وكل ما لدينا هو عشرة أطباء لكل مائة ألف مواطن، أو طبيب واحد لكل ألف مريض. أما عدد المستشفيات الحكومية فيعد على أصابع اليد وهى: مستشفى العباسية الذى أنشئ عام ١٨٨٣، وهو أضخم مرفق طب نفسى، ومستشفى الخانكة الذى يقع على بعد ثلاثين كم شمال القاهرة، وبعض المراكز الصغيرة فى عدد من المحافظات.
ومع أن تقييد المرضى العقليين بالسلاسل توقف عام ١٧٩٢ بمبادرة الطبيب الفرنسى فيليب بينيل، إلا أن المستشفيات الحكومية تعتمد فى أحيان كثيرة معاملة المرضى بخشونة شديدة حتى الآن. أما عن المستشفيات الخاصة فإن تكاليفها الباهظة تحولها إلى منتجع للمرضى من أبناء الأثرياء. وبطبيعة الحال فليس لدينا خط هاتفى ساخن قد ينقذ به الأطباء شبابًا كثيرين من الموت. ليس لدينا ما يكفى من أطباء، ولا مستشفيات، ولا خط ساخن، وبالطبع ليس من المحتمل أن يظهر لدينا عما قريب وزير لمكافحة الانتحار. إلا أن هناك انتحارا من نوع آخر يقوم به الأشقياء الذين يعرضون حياتهم للخطر فى سبيل السرقة وغيرها، وأنا أعتبر ذلك انتحارا أيضا لكن فى اتجاه الخارج والآخرين بما ينطوى ضمنًا على تعريض النفس للموت. وفى هذا الصدد فإنى أعتقد أن كل مجرم هو حالة انتحار موجهة للخارج. بذلك يكون الموت لدينا فى اتجاهين: نحو الذات، ونحو الآخرين.
ويكشف تقرير لوزارة الداخلية عن أن نسبة الزيادة فى معدل جرائم القتل العمد بلغت ١٣٠٪، أما معدلات السرقة بالإكراه فقد زادت بنسبة ٣٥٠٪، وزادت سرقة السيارات بنسبة ٥٠٠٪، وأكدت إحصائيات رسمية من وزارة الداخلية أن فى مصر أكثر من ٩٢ ألف بلطجى ومسجل خطر، ارتكبوا جرائم قتل واغتصاب وخطف بخلاف غير المسجلين. وفى ظنى أن كل مجرم من أولئك مشروع شخص ينتحر، لكن نحو الخارج!. ما أحوجنا نحن أيضا إلى وزير ووزارة لمكافحة الانتحار!.