رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الثقافة المصرية.. الخروج من الأزمة


يرجح الكثيرون أن هناك أزمة تمسك بخناق الحركة الثقافية، وقد عبر د. أحمد مستجير ذات مرة عن تلك الأزمة تعبيرا دقيقا بقوله: «هناك نشاط ثقافى واضح بالفعل ومع ذلك يشعر الفرد بأن ثمة ركودا يلف الروح الثقافية». بمعنى آخر فإن عليك أن تميز بين الحركة والفعل، بين الدبدبة بالقدمين والتقدم إلى الأمام، بين كتب وأفلام ومسرحيات تظهر بلا نهاية وبين أهمية التمسك باتجاه ورؤية.
تتجسد الأزمة فى غياب المشروع الثقافى الذى لا تقوم دونه ثقافة. وقد قامت الحركة الثقافية دوما على صدامها مع القيم السائدة، وعلى رؤية فكرية علمية وإنسانية تطرحها فى مواجهة رؤية أخرى، ومن هذه الزاوية اكتسبت أهميتها أعمال طه حسين ويحيى حقى وعبدالرحمن الشرقاوى وألفريد فرج وغيرهم.
والمؤكد أنه ما من أديب كبير عظيم إلا وكانت له رؤية وفلسفة لتغيير المجتمع بل لتغيير العالم، سواء أكانت مضمرة فى إبداعه أو معلنة.
وحتى السبعينيات من القرن الماضى كانت الرؤية واضحة: مصر وطن يجابه تحديات التنمية ويكافح الاستعمار ويسعى للسيطرة على مقدراته.
أما الآن فقد أمست الرؤية صعبة المنال على مثقفين وأدباء يقفون فرادى بمظلات مثقوبة تحت مطر المفاهيم والتحولات، بعد أن أدى انهيار الفكر الاشتراكى والمشروع القومى إلى فقدان البوصلة وغياب أى مشروع جديد.
لمن نكتب؟ لماذا نكتب؟ لمن نصنع الأفلام؟ لمن نعد المسرحيات وبأى هدف؟.. ما من جواب، أو أن هناك إجابات خافتة بأصوات ضعيفة تتبدد فى رياح الضوضاء. هل يقوم اقتصادنا على النهج الرأسمالى؟ أم الاشتراكى؟ أم بالجمع بين النمطين؟ هل نسعى لنكون دولة مدنية حديثة بالفعل أم أننا نقدم ألف صنف من كل فكرة على منضدة الدولة؟.
ولدينا وزارة ثقافة لكنك لا تلمس أن لديها مشروعا ثقافيا ولا يزيد عملها على تحريك الأوراق والإجراءات. ولهذا يرد البعض أسباب الأزمة إلى مؤسسات الدولة الثقافية ووفقا لذلك الرأى يصبح الخروج من الأزمة مسئولية الدولة.
وعلى العكس من ذلك يرى البعض أن جذور الأزمة ترجع إلى دور المثقف الذى تحول إلى شخص معزول يثير الرثاء. فريق ثالث يرد أسباب شعورنا بالركود الروحى الثقافى إلى مظاهر الأزمة، وليس جوهرها، فيقول إن السبب هو غلبة التيار الدينى الرجعى، وسيادة ثقافة الخرافات والشعوذة، وصعوبات النشر، واحتواء الدولة قسمًا كبيرًا من المثقفين بتوظيفهم فى دوائرها.
وقد يكون كل عامل من تلك العوامل صحيحا بمفرده، إلا أن الأصوات التى ترى الأزمة فى تفاعل كل تلك العوامل معا قليلة، فالأزمة أزمة طريق بشكل عام نرتطم فيه بحقائق قاسية، مثل ارتفاع نسبة الأمية، وتدهور التعليم الذى قال عنه طه حسين إنه «مستقر الثقافة»، وعزلة الإعلام الرسمى المرئى عن الناس، وعزلة الأدباء الذين غرقوا فى ذواتهم بعيدا عن قضايا المجتمع، ثم هجمة العولمة التى تكتسح كل المفاهيم القومية والوطنية لترسخ لفكرة الربح الاستعمارى على حساب الشعوب الأخرى.
وليس سهلا العثور على خريطة لما ينبغى أن يصير إليه حال المجتمع والثقافة فى كل تلك الظروف المحلية والدولية، لكن ذلك لا يمنع من أن تكون نقطة الانطلاق هى قول الحقيقة الوحيدة البسيطة: لقد فقدنا الخرائط، فقدناها فى لحظة حرجة، يتسلل فيها نسق آخر كامل إلى أدق خلايا العقل عبر العولمة التى تريد زحزحة حدود بلادنا مع التمسك بحدود أوطانها هى، وعبر التمويه على طبيعة الصراع العربى- الإسرائيلى بإلقاء التهم علينا باعتبارنا «لا نقبل الآخر»، وعبر تغطية المدافع والدبابات بقماش من صراع الحضارات، وبإشاعة الثقافة المنغمسة فى الذاتية بحثا عن حرية فردية بمعزل عن حرية المجتمع، والإلحاح على ثقافة السلام وكأننا كنا يوما دعاة حرب.
وربما لا نملك سوى القليل لنقوله، وربما لم نعد ندرك سوى القليل لنقوله، لكن هناك- بالرغم من ذلك- ضوءا خافتا يلوح مشتتا ومتكسرا فى أعمال ليست قليلة تسعى لخلق تصور عام وترى الرابطة الوثيقة بين الثقافة والمجتمع، ومن هذه الأعمال يشع نور الأمل فى خلق تيار ثقافى حقيقى ينشغل بالبحث عن رؤية جديدة وبالعثور على إجابات واضحة للأسئلة الملحة: ما الذى نريده لمجتمعنا؟، وما الذى نريده من ثقافتنا ولها؟.