رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

معركة إدلب.. السيناريوهات المراوغة وشهوة المذبحة


أصل الخلاف الذى تفجّر فى طهران، خلال الاجتماع الثلاثى الذى ضم فى السابع من سبتمبر، رؤساء روسيا وتركيا وإيران- هو رغبة أردوغان فى الحصول على مزيد من الوقت، من أجل ضمان الوصول إلى حل سياسى من وجهة نظره دونما اجتياح للمحافظة الأخيرة التى تضم خليطًا عجيبًا من التنظيمات المسلحة والنازحين المدنيين من بلدات سورية أخرى، فضلًا عما تبقى من سكان إدلب الأصليين. هذه الرغبة التركية فى شراء الوقت رفضت من جانب روسيا، وأيدت إيران الرفض بانخراطها العميق مع النظام السورى، فى التجهيز للمعركة الشاملة التى تعيد تلك المناطق إلى سيطرة النظام.
يستند أردوغان فى طلبه المرفوض إلى سابقة تأكيد كلا الطرفين الآخرين فى سوتشى «نوفمبر ٢٠١٧» وأنقرة «أبريل ٢٠١٨»، اعتبار إدلب من مناطق خفض التصعيدالأربع الذى تم اعتمادها فى مسار «أستانة». وربما هذا التأكيد الذى تبدل اليوم، هو الذى دفع أنقرة إلى دفع كلفة باهظة «مادية سياسية» خلال تلك الفترة، من أجل نقل معظم حلفائهم «المسلحين المدنيين» إلى مدينة إدلب وريفها ليستقر فى إدلب المحافظة الآن ما يتجاوز «٣ ملايين نسمة».. ويكمن المأزق التركى فى اشتمال هذا الرقم، على عناصر «هيئة تحرير الشام، النصرة سابقًا» بقوام لا يقل عن (١٠٠٠٠ مقاتل)، وهو الفرع القاعدى المصنف إرهابيًا، و«الجيش الإسلامى التركستانى» وهو تنظيم متطرف مسلح، عناصره بالكامل من «الإيجور الصينيين» ويقدرون بنحو (٥٠٠٠ عنصر). فضلًا عن تنظيم «حراس الدين» القاعدى أيضًا، لكن عناصره بخلاف هيئة تحرير الشام بالكامل أجانب غير سوريين ويتجاوز عددهم (١٠٠٠٠ مقاتل) مسلح.
السيناريو الذى كانت تطمح إليه تركيا هو أن تحصل على مزيد من الوقت من أجل إخلاء الأجانب على الأقل، أعضاء تلك التنظيمات وعائلاتهم. وحيث فشلت أنقرة فى كلا الأمرين خلال الشهور التى سبقت الاجتماع الثلاثى، مما وضعها اليوم أمام محك إصرار روسيا على تنفيذ الاجتياح، وهذا يهددها بموجة نزوح إلى داخل أراضيها من قبل هؤلاء، الذين لا يعرفون على الأراضى السورية سوى الرعاية التركية لهم. فضلًا عن خسارتها منطقة تمارس عليها النفوذ الكامل منذ بداية المأساة السورية، وهو خصم فادح فى مصالحها جعلها تهدد بنسف كامل مسار «أستانة» الذى يمثل لروسيا الكثير، وضرورة تواجد تركيا بداخله يضفى عليه المشروعية، التى تحاول موسكو اعتمادها فى مقابل المسار الأمريكى الذى يقف لمثل هذا الفشل بالمرصاد.
لذلك يبرز سيناريو روسى مقابل قد تكتفى موسكو بمقتضاه بشن هجوم محدود ليس على كامل إدلب، وإنما تقتصر على أهداف نوعية تضمن لها إبعاد «التنظيمات المسلحة» إلى مناطق الشمال السورى. بحيث تضمن تأمين «قاعدة حميميم الجوية» التى تتعرض بين الحين والآخر لهجمات بطائرات «الدرونز»، حيث تشن من مواقع تلك التنظيمات، وتحديدًا من مناطق جنوب غرب إدلب، قرب الحدود مع محافظة اللاذقية، وهى المناطق التى بدأت روسيا فعليًا تركيز القصف عليها فى المرحلة الراهنة. وفق هذا السيناريو، الذى يمثل الأهمية الأولى بالنسبة للنظام السورى، هو تحقيق سيطرته على الطريق الدولى الواصل ما بين حلب وإدلب، فهذا الهدف يحقق له استكمال ما بدأه من الحدود الأردنية فى أقصى الجنوب الشرقى، من درعا وصولًا إلى حلب شمالًا بطول يقارب ٥٠٠ كم ويبقى استكماله وصولًا إلى إدلب، وهى المناطق التى ظهر ترتيب قواته وحلفائه الإيرانيين فيها، بمستوى استنفار وجاهزية الانطلاق لاستردادها.
لكن يبقى السيناريو الثالث، والذى يميل إلى ترجيحه كل الباحثين المعنيين بالشأن السورى وهو الاستعداد الذى يجرى على قدم وساق، داخل المحور الروسى السورى الإيرانى، لتنفيذ اجتياح شامل للسيطرة على كامل إدلب دون وضع اعتبار للتحفظات التركية، أو للمدنيين الذين يشكلون عامل ضغط على الضمير العالمى بأكثر مما يمثلون بالداخل السورى. فهؤلاء ستقع عليهم كارثة القصف الجوى والمدفعى دون حماية، وهم ليسوا فقط لا يملكون ملاذًا بديلا يلجأون إليه، إنما تتمثل جريرتهم المعقدة فى أن التنظيمات الإرهابية تقبع على أراضيهم. لذلك أكد الباحث السياسى المتخصص فى قضايا الشرق الأوسط «ألكسى خليبنيكوف» عضو المجلس الروسى للشئون الدولية، أن «الصراع فى سوريا يتتبع هذه الفترة، نمطًا مفهومًا. فقد تم إلغاء مناطق خفض التصعيد تدريجيا، وقامت قوات التحالف الروسى بتنفيذ هجمات خولت الروس حق عقد صفقات، لإجلاء عدد كبير من المسلحين إلى محافظة إدلب. ونتيجة لذلك بقيت إدلب المنطقة الوحيدة التى لم تسيطر عليها الحكومة السورية، وتتمركز فيها مجموعات المعارضة المسلحة والجماعات الإرهابية، إضافة إلى المدنيين. لتصبح بذلك إدلب منطقة رمادية ومقلقة بالنسبة إلى الروس، ولذلك عليهم التدخل الشامل لحسم هذا الأمر»، هذا حسب رأى الباحث الروسى.
ويوافقه على هذا الرأى الباحث الأمريكى «تشارلز ليستر»، مدير مشروع معهد الشرق الأوسط فى واشنطن لمكافحة الإرهاب. حيث يذكر مؤخرًا أنه «بالنظر إلى ما حدث سابقا فى أماكن أخرى من سوريا، أستبعد أن يلتزم نظام الأسد بتعهداته، وأنه فى نهاية المطاف سيقوم بشن حملة ضخمة على إدلب. وعلى الأرجح سيكون ذلك مسبوقًا بمجموعة من اتفاقات المصالحة، سينجح فى إبرامها على أطراف مناطق المعارضة، وهذه العملية بدأت تسير فعليا». ويستند الباحث الأمريكى فى ذلك على حجم التنسيق الذى يجرى بين النظام، وقاعدة حميميم الروسية، حيث تم هناك استقطاب شخصيات معارضة تروج للمصالحة سرًا.
لذلك يبقى السؤال الكبير، والأكثر مراوغة من كل السيناريوهات: هل ستضحى روسيا بتحالفها الثمين مع أنقرة، من أجل منطقة إدلب واستجابة لشهوة ذبح التنظيمات والمعارضة، وتغامر بهدم مسار «أستانة»؟ لتعيد تركيا بعدها صاغرة، إلى الحظيرة الأمريكية. أم أن موسكو ستوفر لأنقرة فرصة الحفاظ على مكاسبها، التى حققتها فى عمليتى درع الفرات وغصن الزيتون؟.