رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ


انقضى عيد الأضحى المبارك، وكل عام وأنتم جميعا أيها القراء بخير وبركة وسعادة وهنيئا للحجاج والمعتمرين والتائبين والمستغفرين والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس. هكذا تمضى الأيام جميعا.
أردتُ هنا أن أوضح معنى كلمة «العقبة» فى سورة البلد. هذا هو مثل ضربه الله تعالى لمجاهدة النفس والهوى فى أعمال البر المتعددة ويفسره ما بعده من الآيات. وقال بعض المفسرين والعلماء هو جبل فى جهنم. أو عقبة بين الجنة والنار، أو الصراط، أو طريق النجاة. والعقبة فى الأصل: طريق فى الجبل وعر، أو الجبل الطويل. ولكننى أقول: تتعدد العقبات مع اختلاف المكان والزمان والثقافات.
وعن تفسير هذه الآية الكريمة، ففى تفسير ابن كثير، فإننا نقرأ الآتى: روى ابن جرير عن ابن عمر فى قوله تعالى: «فلا اقتحم» أى دخل «العقبة» قال: جبل فى جهنم، وقال كعب الأحبار: هو سبعون درجة فى جهنم، وقال الحسن البصرى: عقبة فى جهنم، وقال قتادة: إنها عقبة قحمة شديدة فاقتحموها بطاعة اللّه تعالى، «وما أدراك ما العقبة»؟ ثم أخبر تعالى عن اقتحامها فقال: »فك رقبة. أو إطعام«، وقال ابن زيد: »فلا اقتحم العقبة» أى أفلا سلك الطريق التى فيها النجاة والخير، ثم بينها فقال تعالى: «وما أدراك ما العقبة. فك رقبة».
وعن سعيد بن مرجانة عن أبى هريرة قال، قال رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم: «من أعتق رقبة مؤمنة أعتق اللّه بكل إرب- أى عضو- منها إربًا منه من النار حتى إنه ليعتق باليد اليد، وبالرجل الرجل، وبالفرج الفرج»، فقال على بن الحسين: أنت سمعت هذا من أبى هريرة؟ فقال سعيد: نعم، فقال على بن الحسين لغلام له أفره غلمانه: ادع مطرفًا، فلما قام بين يديه، قال: اذهب فأنت حر لوجه اللّه «أخرجه البخارى ومسلم والترمذى والنسائى والإمام أحمد».
وعن عمرو بن عبسة أن النبى، صلى اللّه عليه وسلم قال: «من بنى مسجدًا ليذكر اللّه فيه بنى اللّه له بيتًا فى الجنة، ومن أعتق نفسًا مسلمة كانت فديته من جهنم، ومن شاب شيبة فى الإسلام كانت له نورًا يوم القيامة» «أخرجه أحمد».
وفى الحديث: «من ولد له ثلاثة أولاد فى الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث أدخله اللّه الجنة بفضل رحمته إياهم، ومن شاب شيبة فى سبيل اللّه كانت له نورًا يوم القيامة، ومن رمى بسهم فى سبيل اللّه بلغ به العدو أصاب أو أخطأ كان له عتق رقبة، ومن أعتق رقبة مؤمنة أعتق اللّه بكل عضو منه عضوًا منه من النار، ومن أعتق زوجين فى سبيل اللّه فإن للجنة ثمانية أبواب يدخله اللّه من أى باب شاء منها» «أخرجه أحمد أيضًا». وهذه أسانيد جيدة قوية وللّه الحمد.
وفى تفسير الطبرى فإننا نقرأ معنى الآية الكريمة «وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ»: يقول تعالى ذكره: وأىّ شىء أشعرك يا محمد ما العقبة؟. ثم بين جلّ ثناؤه له، ما العقبة، وما النجاة منها، وما وجه اقتحامها؟ فقال: اقتحامها وقطعها فكّ رقبة من الرقّ، وأسر العبودية.
وعن أبى رجاء، عن الحسن «وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ» قال: ذُكر لنا أنه ليس مسلم يعتق رقبة مسلمة، إلا كانت فداءه من النار.. وعن قتادة، قوله: «وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ * فَكُّ رَقَبَةٍ» ذكر لنا أن نبىّ الله، صلى الله عليه وسلم، سُئل عن الرقاب أيها أعظم أجرا؟ قال: «أكثرها ثمنًا».
وعن أبى نجيح، قال: سمعت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يقول: «أيُّمَا مُسْلِمٍ أَعْتَقَ رَجُلا مُسْلِمًا، فإنَّ اللهَ جَاعِلٌ وَفَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنْ عِظَامِهِ، عَظْما مِنْ عِظامِ مُحَرّرِهِ مِنْ النَّار؛ وأيُّمَا امْرأةٍ مُسْلِمَةٍ أعْتَقَتِ امْرَأةً مُسْلِمَةً، فإنَّ اللهَ جَاعِلٌ وَفَاءَ كُلِّ عَظْمٍ مِنَ عِظَامِهَا، عَظْما مِنَ عِظامِ مُحَرّرِها مِنَ النَّار».
أما فى تفسير القرطبى فإننا نقرأ معنى الآية الكريمة «وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ»: قوله تعالى: وما أدراك ما العقبة فيه حذف، أى وما أدراك ما اقتحام العقبة. وهذا تعظيم لالتزام أمر الدين، والخطاب للنبى- صلى الله عليه وسلم- ليعلمه اقتحام العقبة.
قال القشيرى: وحمل العقبة على عقبة جهنم بعيد، إذ إن أحدا فى الدنيا لم يقتحم عقبة جهنم إلا أن يحمل على أن المراد فهلا صير نفسه بحيث يمكنه اقتحام عقبة جهنم غدا. واختار البخارى قول مجاهد: إنه لم يقتحم العقبة فى الدنيا. قال ابن العربى: وإنما اختار ذلك لأجل أنه قال بعد ذلك فى الآية الثانية: وما أدراك ما العقبة؟ ثم قال فى الآية الثالثة: فك رقبة، وفى الآية الرابعة أو إطعام فى يوم ذى مسغبة، ثم قال فى الآية الخامسة: يتيما ذا مقربة، ثم قال فى الآية السادسة: أو مسكينا ذا متربة، فهذه الأعمال إنما تكون فى الدنيا. المعنى: فلم يأت فى الدنيا بما يسهل عليه سلوك العقبة فى الآخرة.
وأقول: إن من معانى الاقتحام هو أن يُلقى الإنسان نفسه فى الخطر أو يدخل فيه وأحيانا دون رؤية أو استبصار. وفى ظنى أن العقبة هى كل التحديات الخطيرة فى الدنيا والآخرة، وهى تشمل كل ما يعوق الإنسان عن حياة السلام والاستقرار والأمان فى الدنيا، وكل ما يعوقه عن الاقتراب من الجنة فى الآخرة أو ما يؤدى به إلى النار.
ومن العقبات الذنب العظيم، أو الكبائر التى تُثقل كاهل الإنسان أو تحول دون المغفرة وفى مقدمتها الشرك بالله، ولذلك كانت مجاهدة النفس والهوى والشيطان وأقران السوء والمنافقين من أطيب الأعمال للتغلب على العقبة بل العقبات. وكل عام وأنتم بخير.. وبالله التوفيق.