رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الأسئلة السخيفة تطارد نجيب محفوظ


فى مارس ٢٠١٤، بمناسبة صدور الأعمال الكاملة لإدوار الخراط، صرحت الدكتورة سيزا قاسم قائلة إن إدوار هو: «أكبر روائى عربى فى العصر الحديث». ولم تتعرض بكلمة لمسألة ما إن كان إدوار الخراط إنسانًا شجاعًا أم لا، ومن حقها بالطبع أن ترى أن الخراط أكبر روائى، هذه وجهة نظرها، ومن حقها ألا تشير بحرف لذبول مواقفه فى المعارك السياسية، أو بالعكس مساهمته فيها بحرارة. وإذا كان معيار سيزا قاسم عند تقدير إدوار هو أعماله الأدبية، فلماذا انتقلت فجأة إلى معيار آخر عند محاسبة نجيب محفوظ، أى صفات الكاتب الشخصية؟، فتتهم محفوظ بأنه كان إنسانًا جبانًا؟!.
صرحت الدكتورة بذلك فى ندوة عقدت منذ أيام لمناقشة كتاب محمد شعير «أولاد حارتنا.. سيرة الرواية المحرمة». وهنا تبرز عدة أسئلة منهجية تتعلق بتعاملنا مع الأدباء والأدب. الأول: هل نعامل الأدباء بصفاتهم الشخصية، جبناء، شجعان، مدمنو خمور؟، وبشكل عام، هل نعامل من تصدوا للعمل العام بناء على صفاتهم الشخصية، أم بناء على أعمالهم وإبداعهم؟!، فإذا كانت سيزا قاسم تشير ليس إلى صفة شخصية بل إلى صفة أثرت فى طبيعة أدب محفوظ، لكان عليها أن توضح كيف انعكس ذلك الجُبن فى أدب محفوظ، وفى أى رواية من رواياته كان جبانا، وزادت الناقدة قائلة إنه: «إنسان جبان طبعًا ليس له موقف شجاع واحد».
وهنا ننتقل إلى قضية أخرى، تتعلق بفهم دور الأديب. هل دوره أن يتخذ المواقف الشجاعة أم أن يعبر عن حياة مجتمعه فى الأدب؟. ومضت تفسر أقوالها السخيفة بأن محفوظ: «لم يجرؤ أبدًا على التصريح بأن الرواية (أولاد حارتنا) كانت رمزية دينية وفضّل أن يقول إنها رواية لها مرام وأهداف سياسية لا أكثر». منذ متى كان الأديب مطالبًا بتفسير أهداف روايته؟. وللناقدة الفاضلة أقول إن نجيب محفوظ كان أشجع أديب عربى فى القرن العشرين، وعندما ساد مناخ الرعب من السجون أيام عبدالناصر كتب محفوظ تحديدًا وليس غيره، رواياته الست التى وجهت سهام النقد العنيف إلى الطابع الاستبدادى للنظام: «اللص والكلاب، والمرايا، والسمان والخريف، والطريق، وميرامار». هذا فى زمن كان الناس فيه يعتقلون لمجرد أنهم صافحوا شخصًا.
وكان معنا فى معتقل طرة عام ١٩٦٨ الناقد على شلش - رحمه الله- الذى ظل فى الحبس عامين، لمجرد أنه صافح جان بول سارتر خلال زيارة الأخيرة للقاهرة، فقط لمجرد المصافحة، مع أن شلش لم تكن له أى علاقة بالحركة السياسية. فى تلك الظروف عكف محفوظ على توجيه سهام النقد العنيف للوجه الاستبدادى للنظام، وكان محفوظ، وأيضًا الشيخ إمام، يشكلان الظاهرة المعارضة الأكثر شجاعة وحيوية فى الحياة الثقافية السياسية. هل يمكن أن نقول عن إنسان كهذا إنه جبان؟!. قصة نجيب محفوظ، أنه قرر أن يتفرغ تمامًا للرواية، فلا يدع شيئًا آخر يعطله، وقرر أن تكون الرواية ساحة شجاعته، ومواقفه، الرواية تحديدًا، حتى إنه عندما عرض عليه مصطفى أمين فى الخمسينيات أن يكتب قصصًا قصيرة لجريدة الأخبار بمكافأة شهرية تساوى ضعف راتبه الشهرى رفض واعتذر بأنه متفرغ للرواية.
وحينما سألناه أكثر من مرة عن اختلاف مواقفه فى الظاهر عما تحتويه رواياته، قال بوضوح: «صدقوا رواياتى». لم يدخل محفوظ أى معركة بشكل مباشر، لكنه صور كل نماذج الحياة المصرية خلال المعارك وعلى هامشها، بعبقرية غير مسبوقة وطرح خلال ذلك رؤيته وموقفه وشجاعته التى كتب بها روايته «أولاد حارتنا»، فتسببت فى طعنه بالسكين. وعندما تتحدث ناقدة ودكتورة وأكاديمية عن أديب كبير، فلا بد أن تكون على علم أن ما يخص النقد ليس أن محفوظ جبان، لأنه لم يقدم نفسه بصفته مصارع ثيران أو مروّض أسود، لكن ما يخص النقد هو: كيف ظهر الجبن فى أدبه إن كان لتلك الصفة الشخصية تأثيرها؟ لقد اختط محفوظ لنفسه طريقًا خاصًا، نأى به عن كل المعارك الاجتماعية، لكن ما يعنينى هنا هو إخلاصه لقضيته، وإبداعه، وليس أنه كان خفيف الظل أو شجاعًا، أو أحمق. وأظن أن كل ناقد يعلم أن الخفة لا تجوز عند التعامل مع كُتّاب عظام أفنوا حياتهم فى الأدب وأمسوا ظاهرة فى تاريخه. والغريب أن يتصور بعض المثقفين أن على الأدباء جميعًا أن يتخذوا نفس المسار: خوض المعارك، وكتابة المقالات، واتخاذ المواقف، وكأننا نريد ماكينة تطبع نفس النسخة من الكاتب.
هناك دائمًا طرق خاصة مختلفة، يمضى عليها البعض إلى نفس الهدف، ولا يعنى ذلك أنهم جبناء. وقد كان عدد غير قليل من كتب طه حسين مهدى إلى الملك، فهل نتهم الكاتب العظيم بالجبن؟، وقد تراجع بيرم التونسى عن الهجوم على الملك بقصيدة صالحه فيها، فهل نتهمه بالجبن؟.. والأمثلة لا تحصى، والدرس المستفاد منها أن علينا أن نرى الظاهرة فى طابعها الشمولى، بالضبط كما رأت الدكتورة سيزا قاسم بشكل شمولى أن إدوار الخراط أكبر روائى عربى، من دون أن تتوقف عند صفاته الشخصية بكلمة. فى كل الأحوال من المخجل أن نتناول أديبًا عظيمًا بهذه الخفة بحيث نوجزه فى لفظة غير لائقة لا به ولا بتاريخه ولا بإخلاصه لقضيته.