رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

تركيا على طريق الآلام


يحاول الرئيس التركى بكل الوسائل وبالكثير من الجهد أن يسحب الأزمة التى تضرب عصب الاقتصاد التركى إلى مربع السياسة وإثارة واستفزاز النعرة القومية الداخلية

التقرير الذى نشرته وكالة الأنباء الفرنسية الثلاثاء الماضى، حذر من أن لجوء تركيا إلى إغلاق «قاعدة إنجرليك» الأمريكية، كتفكير طُرح على الرئيس أردوغان ردًا على العقوبات التى فرضتها عليها الولايات المتحدة، سيشكل انتكاسة كبرى تكلف أنقرة ثمنًا غاليًا. فقد كان مما تم رصده أنه مع تراجع العلاقات بين الحليفين الأطلسيين فى الأسابيع الأخيرة ووصولها إلى أدنى مستوياتها منذ عقود، حذر الرئيس التركى رجب أردوغان واشنطن بأنه قد يضطر إلى البحث عن «أصدقاء جدد وحلفاء جدد». وقد تعمد الرئيس التركى أن يأتى هذا التحذير، بعد أن أجرى مكالمة هاتفية مع الرئيس الروسى فلاديمير بوتين، بحثا خلالها مسائل اقتصادية وتجارية إضافة إلى ترتيبات الخطوات القادمة فيما يتعلق بالأزمة فى سوريا.
وسائل الإعلام الأمريكية التى ترصد وتساهم هى الأخرى فى تأجيج واصطياد مسببات الاحتقان ما بين الدولتين، كشفت عن وثائق نشرتها الأسبوع الماضى، تفيد بأن مجموعة من المحامين القريبين من الحكومة التركية، قدموا مذكرة إلى محكمة «أضنة» أقرب مدينة إلى «قاعدة إنجرليك»، للمطالبة بتوقيف ضباط أمريكيين لاتهامهم بالمشاركة فى محاولة الانقلاب، التى شهدتها تركيا فى يوليو ٢٠١٦. ومما ذكر فيها أن المحامين ضمنوا أسماء عديدة لمسئولين عسكريين أمريكيين، لكن المفاجأة كانت أنه ممن يطالبون بتوقيفهم قائد القوات الأمريكية فى الشرق الأوسط «الجنرال جوزف فوتيل».
ولذلك نشرت «الواشنطن بوست» تقريرًا مطولًا، فى ذات اليوم طرحت فيه التساؤل عن جدية وإمكانية هذا الأمر، فيما سعى وزير الدفاع الأمريكى «جيمس ماتيس» للطمأنة، مؤكدًا أن العلاقات بين قوات البلدين لم تتغير، وكرر التصريح الذى مرره بمعظم الوسائل الصحفية مؤخرًا «إننا نواصل العمل بتعاون وثيق». لكن القائد السابق لقوات الحلف الأطلسى «جيمس ستافريديس»، يرى أن الوضع مقلق. وذكر أن «خسارة تركيا ستكون خطأ جيوسياسيًا هائلًا»، مضيفًا أنه يجدر بنا أن نتمكن من وقف ذلك، لكن يعود لتركيا فى المرحلة الراهنة القيام هى بالخطوة الأولى. ووافقه إلى حد ما فى ذات التقرير مدير مركز دراسات الشرق الأوسط «جوشوا لانديس»، مؤكدًا أن «تركيا هى التى ستعانى أكثر، جراء الأزمة مع واشنطن. وأعتقد بقوة أن إنجرليك ستبقى»، معتبرًا أن «طرد الولايات المتحدة سيشكل انتكاسة كبرى لتركيا، ولا أظن أن أردوغان يريد ذلك».
«قاعدة إنجرليك» شيدتها الولايات المتحدة بجنوب تركيا عام ١٩٥١، فى أشد وأعقد حقبة من الحرب الباردة. وهى تستخدم كقاعدة خلفية رئيسية للعمليات الأمريكية فى المنطقة، وتخزن فيها خمسين رأسًا نووية من ضمن القوة الاستراتيجية لحلف الأطلسى الرادعة، تضمن منذ عقود أمن تركيا. ومنذ اعتداءات ١١ سبتمبر ٢٠٠١ فى الولايات المتحدة، تقوم القاعدة بتأمين القسم الأكبر من المساعدات اللوجستية لعمليات الحلف الأطلسى فى أفغانستان، كما تلعب دورًا كبيرًا منذ ٢٠١١ فى عمليات التحالف الدولى فى كل من العراق وسوريا. مؤخرًا وقبيل نشوب تلك الأزمة، وعلى خلفية التدهور وتبدل النظرة إلى تركيا ونظامها السياسى، وما جرى تقييمه بأنه مع الوقت يزداد الوضع اضطرابًا فى تركيا، يدعو بعض الخبراء العسكريين الأمريكيين ويشاركهم بعض ممن شغل مناصب قيادية فى «ناتو»، إلى الحد من اعتماد القوات الجوية الأمريكية على هذه القاعدة.
وفى الوقت الذى يحاول فيه الرئيس التركى بكل الوسائل وبالكثير من الجهد، أن يسحب الأزمة التى تضرب عصب الاقتصاد التركى، إلى مربع السياسة وإثارة واستفزاز النعرة القومية الداخلية، مصورًا الأمر على أنه فصل من حرب ضروس تشن على نظامه وشعبه. يتحدث الخبراء الاقتصاديون الأتراك ذاتهم بما يخالف هذا الطرح تمامًا، ومنهم البارز «أتيلا يشيلادا»، المتخصص فى مؤسسة «جلوبال سورس بارتنرز» بإسطنبول، حيث أوضح أن هذه المرة وصل أردوغان إلى نهاية الطريق. ولذلك يجب عليه إما أن يتقبل العقوبات أو يتوجه إلى صندوق النقد الدولى للاقتراض خلال ستة أشهر. لكن ما يجعل هذا الأخير ذاته يشوبه قدر عالٍ من عدم اليقين، أن إجمالى ديون الشركات التركية وحدها سجل فى نهاية فبراير ‏الماضى «٢٢٨ مليار دولار»، طبقًا لبيانات البنك المركزى التركى. وأفادت تقارير البنك حينها بأن «مجموعة دوجوش» التى تملك «مصرف جارانتى» وسلسلة المطاعم التركية الشهيرة «سولت باى»، و«يلدز القابضة» التى تملك علامتى «جوديفا» و«ماكفيتيز» التجاريتين للحلويات، طلبتا من البنوك إعادة هيكلة ديون بمليارات الدولارات. ولجأت «يلدز القابضة» لإعادة جدولة قروض بقيمة «٦.٥ مليار دولار»، من أصل إجمالى ديونها البالغة «٨.٥ مليار دولار»، فى عملية ينتظر أن تنجز خلال أسابيع، واضطرت الشركة العملاقة أن تضع عددًا من أصولها العقارية داخل تركيا وخارجها، كضمانات لتلك القروض ولعملية الجدولة الملحة.
وأضاف الخبير «أتيلا ييشيلادا» فيما يشبه التقييم مقدمًا روشتة عاجلة تمس أصل المشكلة، أنه قد سبق تحذير تركيا من ذلك كثيرًا وأن هذا الوضع لا يمكن استمراره، فهناك دول عديدة حول العالم تتبع سياسة «بقدر غطائك، مد قدميك»، وهناك من الدول من لم تفلح فى تطبيق ذلك، حيث كان من المعروف أن هذا سيحدث منذ عامين. لكن المسئولين لم يتخذوا التدابير اللازمة ولم تصدق حكومة أردوغان ذلك. مبديًا دهشته البالغة فى أن الاستماع إلى تصريحات الحكومة، يظن أن العالم مدين لنا، والأنكى أن هذا ما بدأ يظهر مؤخرًا فى تقارير البنك المركزى أيضًا. لكن يبقى فى النهاية أن الوضع يمكن تلخيصه بالشكل التالى: كان هناك بحر يصب فيه ثلاثة أنهار. أحدها جف، واحتياطى الثانى يتراجع. والثالث قد يجف فى أى لحظة.