رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

سينما ريفولي.. ما الذي يحرق ذكرياتنا؟


«الشتاء بارد على من ليست لديهم ذكريات دافئة»، تلك عبارة الكاتب الروسى الكبير فيودور دوستويفسكى. هذه الذكريات تمسى فى أواخر العمر وأحيانًا من بعد الخمسين كل ثروة المرء، وأكثر ما يبعث الدفء من بينها تلك التى اقترنت بأماكن البهجة: مسرح، سينما، أو حديقة، فرق موسيقية.
لكن قوة مجهولة دأبت على إحراق ذكرياتنا التى تشكل نسيج أرواحنا، آخر ما احترق من عالمنا سينما ريفولى التى شهدت حفلات كبار النجوم: عبدالحليم وأم كلثوم وفريد الأطرش، كما حضر جمال عبدالناصر حفلا بها فى أكتوبر ١٩٥٥. ولا شك أن احتراق، أو إحراق، سينما ريفولى بموقعها الممتاز وسط البلد سيفسح المجال لملاك السينما لبناء محل تجارى أو عمارة بجراج وذلك أنفع لهم تجاريًا آلاف المرات.
هذا ما حدث بعد هدم سينما فاتن حمامة فى المنيل. فقد تحولت إلى مول تجارى فى ظل حكم المحكمة الدستورية سنة ١٩٧٧ بوقف العمل بالقانون ٦٧ لعام ١٩٨٠ الذى كان يحظر هدم أى دور عرض، وإلزام من يقوم بذلك بإعادة بنائها فى المكان نفسه. مع زوال حظر الهدم تناقصت دور العرض فى مصر من مائتين وثمانين دارًا إلى ثمانين فقط!. فى الإسكندرية، تم هدم سينما ومسرح إسماعيل يس، ومسرح نجيب الريحانى، ومسرح الفن، ومسرح وسينما السلام الصيفى بسيدى جابر الذى شيد عام ١٩٥٤، وأطل بدلًا منه فندق وجراج متعدد الطوابق. وفى مدونة «جدران مدينة متعبة»، توثيق لدور العرض التى هدمت ويزيد عددها على ثلاثين دارًا. هذا فى مدينة الإسكندرية حيث جرى أول عرض سينمائى بمصر فى يناير ١٨٩٦.
جدير بالذكر أن البيت الذى نشأ فيه سيد درويش- باعث النهضة الموسيقية القومية- أمسى حظيرة ماعز بالمعنى الحرفى للكلمة، دون أن تتقدم جهة واحدة لإنقاذه وتحويله لمتحف، كما هدم هناك بيت شاعر الشعب بيرم التونسى. وحين نتحدث عن حرق، أو إحراق، أو هدم دور العرض، فإننا لا نتكلم فقط عن ذكرياتنا ونسيج أرواحنا الذى يتحول إلى مول تجارى تتكدس فيه السلع، بل إننا نتحدث بالقدر ذاته عن مستقبل الثقافة والتنوير بواسطة فن السينما ودور الثقافة والفن فى تطور مصر، ونتحدث أيضًا عن الأمن الاقتصادى القومى، فقد شكلت السينما فى مصر ثانى مصدر من مصادر الدخل القومى بعد القطن فيما مضى، وفى المغرب تشكل السينما ١٣٪ من الدخل القومى، وتتخطى ذلك المعدل فى بلدان أخرى عديدة. قضية هدم دور العرض تتصل بمستقبل مصر ثقافيًا واقتصاديًا بشكل مباشر ناهيك عن محو الذاكرة الإنسانية المرتبطة بتلك الأماكن، حيث تنقضى فيها وحولها أجمل سنوات العمر. ألسنا بحاجة لنشر الفن فى مواجهة التخلف؟، كيف نفعل ذلك إذا كانت هناك مدن كاملة مثل المنيا وأسيوط تخلو حتى من دار عرض واحدة؟!.
فى أبريل ٢٠١٦ هدمت فى أسيوط سينما «رينسانس أسيوط»، وارتفع بدلًا منها مجمع سكنى يدر أرباحًا أكثر، وكانت تلك السينما هى الوحيدة المتبقية فى أسيوط بعد إغلاق سينما مصر الصيفية. فى مدينة السويس قامت ١٧ دار عرض لم يبق منها سوى دار واحدة، فى حى منيل الروضة بالقاهرة هدمت أربع دور عرض: الجزيرة، والروضة، وجرين، وفاتن حمامة، علاوة على مسرح «مينوش الجزيرة».
تتهرب وزارة الثقافة من مسئوليتها عن دمار صناعة السينما بهدم دور العرض، وهى المتنفس الاقتصادى لتلك الصناعة، وتتهرب وزارة الآثار كذلك بدعوى أن تلك الأماكن التى تهدم لم تدرج بصفتها «آثارًا» لأنه لم ينقض على بنائها مائة عام. ويبقى مفتاح القضية فى إعادة العمل بالقانون ٦٧ الذى حظر هدم دور العرض، وفى تفعيل هذا القانون، وإلا سيظل مبدأ «الربحية الأعلى» يلتهم كل شىء: الاقتصاد القومى، والثقافة، وذكريات أعمارنا، ومستقبل التطور.
ويكفى ما يجرى فى الساحات الأخرى من تدمير، فقد هدمت فيلا الشاعر أحمد رامى فى شارع الخندق بحدائق القبة، وارتفع بدلًا منها مبنى ضخم أكثر ربحية، وجرى تأجير لسان قلعة قايتباى بالإسكندرية ليتحول مدخل القلعة إلى مقاهى وبيزنس لرجال الأعمال، كما يتم التخطيط لنقل معرض الكتاب من مكانه الذى استقر فيه نصف قرن إلى التجمع الخامس، وبالطبع فإن الهدف الوحيد من نقل المعرض هو بيع أرض المعرض القديمة لأن ذلك «أكثر ربحية». هناك فى الثقافة، وفى البشر، وفى التاريخ، أشياء لا يمكن بيعها، ولا يمكن إخضاعها لمنطق الربح، ولا ينبغى تحويلها إلى سلعة، وفى مقدمتها: الذاكرة.