رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

قتل الأبناء.. الظروف أم قسوة القلب؟


فى ٢٠ يوليو الحالى ألقت قوات الأمن القبض على أستاذ جامعى بكلية الطب جامعة الأزهر قتل ابنه الصغير بضربه بسير غسالة مثبت فى نهايته مفك حديد. قرأت الخبر وقلت لنفسى إن الفقر قد لا ينجب الطيبة، لكن ليس محتوما أن ينجب جريمة. ها نحن إزاء أستاذ جامعى لا يعانى الفقر قتل ابنه الذى لم يزد عمره على أربعة عشر عاما. لماذا؟، ترى ألا يولد الإجرام من قسوة الروح أحيانا، وليس قسوة الظروف؟.
حينذاك وثب إلى خاطرى كتاب صلاح عيسى «رجال ريا وسكينة»، عن أشهر سفاحتين فى تاريخ مصر. أذكر منه بوضوح أنه من بين سبع عشرة امرأة قتلتهن الأختان ريا وسكينة خنقتا بفوطة، كان ثمة بائعة خبز متجولة تجاوزت الستين، تصيدتها سكينة من الشارع، ولم يكن على صدر العجوز أو فى يديها من الحلى الذهبية ما يغرى بقتلها، لكن الأختين الهاربتين من جوع الصعيد وبؤسه إلى الإسكندرية انتقلتا شيئا فشيئا من القسوة لتدبير الطعام، إلى القسوة بحد ذاتها!، ولم يفلت من الموت خنقا حتى بعض الصديقات المقربات للأختين، فلاقين مصيرهن الفاجع فى حجرات معتمة داخل ما سمته الصحف حينذاك «بيوت الهلاك».
القسوة التى كانت وسيلة لدى ريا وسكينة أمست غاية. فى ذلك الكتاب الممتع يرسم الكاتب الكبير صلاح عيسى من واقع محاضر تحقيقات الشرطة عام ١٩٢٠ صورة ناطقة للأختين ورجالهما الأربعة. القسوة التى لا علاقة لها بالظروف الاجتماعية، لكن بالطبائع البشرية، تتكشف فى التحقيق مع الطفلة «بديعة»، ابنة ريا، التى تصرح للمحقق بقولها: «أنا خايفة. س: خايفة من إيه؟. خايفة من أمى وأبويا وسكينة وأهلى كلهم. لأنهم كل ما يقعدوا ياكلوا يدونى لقمة حاف، ولما أطلب غموس يضربونى ويشتمونى، ويقولوا لى: اطلعى برة.. وبالليل يقفلوا علىّ الباب بالمفتاح، والدنيا ضلمة، فأخاف.. ومرة لما فتحوا علىّ الباب الصبح، كنت رايحة أهرب وأروح أتشعلق فى الوابور وأسافر كفر الزيات عند خالى، لكن ما عرفتش». فى شهادة هذه الطفلة لا نواجه الفقر، لكن قسوة القلب وموت الضمير حتى تجاه الأبناء، الأمر الذى اتضح مجددًا فى حالة دكتور جامعة الأزهر الذى نقل ابنه الصغير إلى المستشفى ميتًا، وادعى أن الصبى غادر المنزل، وحين بحث عنه وجده ملقى قرب إحدى العمارات. لكن التحقيقات كشفت عن إصابات مماثلة فى جسدى أخويه الصغيرين اللذين قالا إن والدهم- عقابا لهم على اختفاء أربعمائة جنيه- ظل يضربهم بسير غسالة مثبت فى طرفه مفك حديد حتى توفى أحدهم من عنف الضربات المتلاحقة.
أم الأطفال طبيبة حاولت هى الأخرى التغطية على جريمة زوجها الذى اضطرته التحقيقات إلى الاعتراف، وتم العثور على أداة القتل فى صوان ملابسه بحجرة نومه. هل يجوز هنا أن نتحدث عن الفقر؟، أو عن الحاجة والعوز دافعا للجريمة؟. لقد سبقت القسوة القتل بزمن طويل، حينما اعتبر الوالد أنه من الطبيعى أن يحتفظ لأطفاله طوال الوقت بسير غسالة مثبت فيه مفك حديد للتعامل معهم!!، وحينما اعتبر أن القسوة أساس العلاقة. قبل فترة فى مطلع يوليو الحالى نشرت الصحف نبأ العثور على جثث ثلاثة أطفال صغار- أحدهم فى الثانية من عمره- داخل أكياس بلاستيكية قرب مبنى فى المريوطية، واتضح أن والدتهم «أمانى. م» تعمل بأحد الفنادق، وكانت قد تركت أطفالها الصغار الثلاثة فى حجرة مغلقة فاندلع حريق أدى لوفاتهم، فألقتهم بجوار فندق بمساعدة صديقة لها!.
مجددا نحن لا نواجه الظرف الاجتماعى، بل القسوة التى تجسدت فى إلقاء الصغار فى الشارع فى أكياس بدلا من دفنهم. وقد حاولت العثور على إحصائيات بشأن الجريمة فى مصر، فلم أجد سوى تصريح فى مايو ٢٠١٣ أكد فيه اللواء أحمد حلمى، مساعد الوزير للأمن العام، أن معدل حوادث جرائم القتل فى مصر تحديدا يتراوح بين أربع وخمس حالات يوميا، لكن الإحصائيات لا توضح دوافع الجريمة.
هل هى الظروف الاقتصادية، أم طبائع البشر، أم المعتقدات؟، وجرائم القتل بسبب المعتقد ليست قليلة، بعضها بدوافع وطنية، وبعضها بفكر متخلف متحجر. وقد تمت أشهر عمليات القتل بدوافع وطنية بعد حادثة دنشواى، حين قام إبراهيم الوردانى، الصيدلى المصرى الشاب، باغتيال رئيس الوزراء بطرس غالى، صديق الاستعمار الإنجليزى. وعندما ألقى القبض على الوردانى قال دون تردد إنه قتله: «لأنه خائن للوطن». قبل إعدام الوردانى أبدع الشعب أغنية فى وداعه صارت من الفلكلور وهى: «قولوا لعين الشمس ما تحماشى، لحسن حبيب القلب صابح ماشى».
وبعد إعدامه صدر قرار حكومى يعاقب أى مصرى يحتفظ بصورة الوردانى، وظل القرار ساريا إلى قيام ثورة يوليو ١٩٥٢. هناك على الجانب الآخر معتقدات تنتسب لرواسب التخلف وتفضى للقتل، من ذلك أنه فى ٦ نوفمبر ٢٠١٠ نشرت الصحف المصرية أن والدًا فى محافظة الفيوم خنق ابنته التى لم تتجاوز ثلاث سنوات خوفا من أن تنعدم فرص الزواج أمامها حين تكبر بسبب معايرة أهالى القرية لها، عندما تشب، بسلوك إحدى قريباتها!. هكذا قرر التخلص منها مبكرا، وهى فى الثالثة من عمرها!، وأتساءل ثانية: الظروف أم القسوة؟. وعندما يلح علىّ ذلك السؤال أفكر فى أن هناك اعتبارا، خارج الظروف، هو طبيعة القلب الإنسانى. وقد اكتشف الإنسان أبعد الكواكب، المريخ والزهرة، لكنه لم يكتشف بعد ذلك الكوكب الصغير الذى ينبض بداخله: القلب!!.