رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الطائرات الورقية والدولة اليهودية


فى يوم الثلاثاء ١٨ يوليو الحالى أقر الكنيست الإسرائيلى قانونًا جديدًا أقرب ما يكون إلى مراسم دفن «السلام» و«حل الدولتين»، الذى تأرجح طويلًا فى الجو رغم وفاته. يعتبر القانون أن إسرائيل بكل مقاطعاتها «المسلوبة من فلسطين» هى: «الوطن القومى للشعب اليهودى». وأن حق تقرير المصير: «حق خاص للشعب اليهودى»، أما القدس، فإنها: «كاملة موحدة.. عاصمة إسرائيل».
يعتبر البند السابع منه أن واجب إسرائيل بذل قصارى جهدها لجمع شتات يهود العالم داخل الكيان الصهيونى. أخيرًا يعتبر القانون اللغة العبرية لغة الدولة الأساسية، مما ينزع عن اللغة العربية صفتها كلغة رسمية ثانية بجوار العبرية. وبذلك تُدفن عملية السلام القائمة على حل «الدولتين»، فلم يعد للفلسطينيين ما يخوضون من أجله أى مفاوضات، فقد أمست فلسطين المحتلة رسميًا «الوطن القومى للشعب اليهودى»، كما أمست القدس كاملة عاصمتها. وإذا كان القانون يوارى الثرى أوهام السلام التى تشبثت بها الأطراف الرسمية عربيًا ودوليًا، فإنه قد سحق أيضًا ضلال وهزال من ظلوا يروجون لأكذوبة «إسرائيل الديمقراطية»، واحتمال أن تصبح إسرائيل نموذجًا علمانيًا للتعايش إلى آخر ذلك من أقاويل وضعت تاجًا من الورد الصناعى على رأس الوحش الاستعمارى. ولدينا متحدثون باسم هذه الأكاذيب مثل مسعد أبوفجر الذى تؤرقه عذابات الروح اليهودية فلا تترك له فرصة لنوم هادئ، والذى كتب رواية «طلعة بدن» ليشيد فيها بإنسانية الجيش الإسرائيلى فى معاملة أهل سيناء مقابل وحشية الجيش المصرى.
ولقد استنكر اتحاد الناشرين العرب صدور القانون وجاء فى بيانه أن: «القرار المشين يزوّر التاريخ ويستبدل يهودية كيان صهيونى غاصب بعروبة فلسطين» وأن: «الكيان الصهيونى مصطنع، دخيل، غريب عن كيمياء الوطن العربى»، بينما أعرب الاتحاد الأوروبى عن قلقه من أن القانون يمنح اليهود وحدهم حق تقرير المصير، وأنه سيُعقّد حل الدولتين. وبهذا الصدد صرحت فيدريكا موجيرينى، مسئولة السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبى، بقولها: «إننا قلقون وعبّرنا عن هذا القلق وسنستمر فى التواصل مع السلطات الإسرائيلية فى هذا السياق».
ويكشف القانون رسميًا عن طابع دولة الاحتلال العنصرى والإرهابى، لأنه عندما ينص القانون على أنه لا مكان لأحد فى إسرائيل إلا لليهود، فإنه يطلق يد الدولة الإرهابية فى قتل وإبادة الشعب الفلسطينى قانونًا. ويعتقد قادة الكيان أن من الممكن «خلق قومية يهودية» بكلمة فى بيان إذا نص على أن هذه الأرض أو تلك هى: «الوطن التاريخى للشعب اليهودى»، إلا أن القوميات التى نشأت عبر التاريخ الحديث لم تكن ناتجة لمجموع تعداد سكان هبطوا على أرض أو أخرى، لكنها تشكلت نتيجة تفاعل اختمر طويلًا بين اللغة والثقافة والاقتصاد والتاريخ، وليس بكلمة فى بيان. والمؤكد أنه لا يوجد لدى سكان القاعدة العسكرية الإسرائيلية شىء من مقومات القومية لكى يمكن الادعاء بأن لسكانها حق تقرير المصير، أما الديانة بمفردها فإنها لا تشكل قومية، وإلا لألّف المسلمون فى إندونيسيا والمسلمون فى أذربيجان قومية واحدة، ولا يؤدى تجميع الشراذم اليهودية من مختلف الأنحاء ومنحها حق «تقرير المصير» إلى خلق قومية، خاصة إن كان تجميع تلك الشراذم يتم لترسيخ مشروع استثمارى عسكرى يفوز فيه كل فرد بحصة من وطن ليس وطنه ويحظى بمنزل على أنقاض منازل أصحاب الأرض.
من ناحية أخرى، تظن إسرائيل أنها بالقانون ستخمد المقاومة الفلسطينية، وتوفر لنفسها المزيد من الأمن والاستقرار. ويتناسى الكيان العدوانى أن الشعب الفلسطينى لا يكف عن اختراع أسلحة الأمل الذى «يأتى ويذهب، لكنه لا يودعه»، بدءًا من حجارة بلاده مرورًا بإطارات السيارات القديمة، فالطائرات الورقية التى تنطلق من هواء غزة إلى المستعمرات القريبة لتشعلها. وقد يستهين البعض بالطائرات الورقية، لأنه لا يرى سوى الورق والخيوط وأصابع الفتيان العزّل، ولا يبصر خلف ذلك إرادة القتال، وهى أعتى سلاح. فى ستينيات القرن الماضى حشدت أمريكا أكثر من نصف مليون جندى وضابط لاحتلال فيتنام.
وكان الضباط الأمريكيون يمرون فى الغابات وهم يمضغون العلكة، فأخذ الفيتناميون يضعون العلكة الأمريكية فى أعشاش النحل بالغابات ثم يضربون الأعشاش بالعصى، إلى أن ربط النحل بين الرائحة والضرب، فصار يهتاج ما إن يعبر الجنود الأمريكيون فى الغابة وينقض عليهم يهاجمهم بقوة وكثافة فيلقون أسلحتهم وهم يتفادون هجمات النحل فيظهر الفيتناميون من وراء الأشجار ويقودونهم أسرى. فى حين استهان البعض بوضع العلكة الأمريكية فى أعشاش النحل وقالوا: هل يمكن هزيمة الجيش الأمريكى المدجج بأحدث الأسلحة بتلك الوسيلة ؟! ولم يبصر أولئك الأهم من الوسيلة، أى إرادة القتال التى ما لبثت أن هزمت الأمريكيين وأجبرتهم على الانسحاب عام ١٩٧٥، بعد أن بلغ عدد قتلاهم نحو ستين ألف ضابط وجندى، وفق تقرير روبرت ماكنمارا، وزير الدفاع الأمريكى حينذاك.
ولم تكن مصادفة أن يتغنى الشيخ إمام فى عز نضال الشعب الفيتنامى يبشر الشعب الفلسطينى: «يا فلسطينية فيتنام عليكوا البشارة، بالنصرة طالعة من تحت ميت ألف غارة، والشمعة والعة والأمريكان فى خسارة، راجعين حيارى عقبال ما يحصل معاكم».
خرقة صغيرة من قماش مبللة بالسولار تربط فى ذيل طائرة ورقية، يطلقها أبناء الشعب الفلسطينى العزّل. طائرة صغيرة ترد الآن على قانون الدولة اليهودية وعلى الاحتلال الاستيطانى وعلى تاريخ الإجرام الإسرائيلى بدءًا من العدوان على مصر فى ١٩٥٦، وقصف مدرسة بحر البقر، وضرب لبنان، وسوريا، والمشاركة فى هدم العراق، وتقسيم السودان، ونهب ليبيا. طائرة ورقية صغيرة تعلو وتحلق وتشتعل فى السماء، لأن لدى الشعب الفلسطينى أملًا، يأتى ويذهب، لكنه لا يودعه، وسوف يظل هذا الأمل يحلق فى السماء إلى أن يملأ الأفق بالنور ويتخم القلب بنشوة النصر.