رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

إنهم يأكلون البلاستيك.. ويستوردون الشائعات!


لا يوجد أي دليل عملي أو واقعي على أن شركة، مؤسسة، أو جهة مصرية استوردت الأرز البلاستيكي، أو الأرز الصيني، المشكوك في وجوده أصلًا. لكن الثابت، هو أن مصريين استوردوا تلك ‏الشائعة، التي ظهرت لأول مرة في ٢٠١١، ولم يتم تداولها إلا في عدة دول، عربية وإفريقية، لأسباب يمكنك استنتاجها!.‏

يقول الواقع إن الأرز، بالذات، من السلع الاستراتيجية، التي من المفترض أن توليها الدولة اهتمامًا خاصًا. وتقول الضوابط التي تطبقها الدولة إن الشحنات المستوردة من كل المواد الغذائية، والأرز من ‏بينها أو أبرزها، تخضع للفحص النوعي للتأكد من مطابقتها للمواصفات القياسية المصرية، ولا يتم الإفراج عنها إلا بعد حصولها على شهادات من جهات رقابية عديدة على مطابقتها للمواصفات. ومع ‏ذلك، ترددت (وتتردد) شائعات، تزعم أن شحنات من ذلك الأرز «الصيني»، المصنوع من البلاستيك، دخلت إلى البلاد، ويتم بيعها في الأسواق!.‏

يغيظك، أو على الأقل يحيرك أن تستمر تلك الشائعات في الانتشار، وأن يتواصل تداولها على نطاق واسع، للمرة الثالثة، خلال أقل من سنتين، دون أن يلتفت من ينشرون ويتداولون إلى بيانات النفي ‏السابقة، أو إلى البيانات الجديدة التي كان أحدثها ذلك الذي أصدرته الهيئة العامة للرقابة على الصادرات والواردات، والذي نفت فيه بشكل قاطع وواضح دخول شحنات من الأرز غير المطابقة للمواصفات ‏المصرية من أي من الموانئ البحرية أو الجوية أو البرية. ويغيظك أكثر، أو على الأقل يحيرك بدرجة أكبر، أن المواطنين الطيبين، قبل أن يلتقطوا أنفاسهم، فوجئوا بشائعة «البيض» البلاستيك، وقد تصلهم ‏قريبًا شائعة جوز الهند «الأسمنتي» التي لا أعرف سببًا، لتأخر وصولها إلى مصر!. ‏

ليس هذا هو الظهور الأول لتلك الشائعة، شائعة استيراد أرز بلاستيك. إذ ظهرت في يونيو ٢٠١٦، وفي فبراير ٢٠١٧، وفي المرتين قامت كل الجهات المعنية بنفيها: وزارة التموين، الهيئة العامة ‏للرقابة على الصادرات والواردات، الشركة العامة لتجارة الجملة التابعة للشركة القابضة للصناعات الغذائية بوزارة التموين، مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء. لكن الملاحظ هو ‏أن الشائعة لم تحقق في المرتين السابقتين الأثر نفسه الذي حققته الشائعة الأخيرة، ربما لأن المواطنين قبل سنتين، ثم سنة، كانوا أرجح عقلًا، وربما لأن الشائعة الأخيرة تزامنت مع الإعلان عن فتح باب ‏استيراد الأرز لتوفير احتياجات المواطنين من الأرز التمويني بعد قرار الحكومة تقليص مساحات زراعة الأرز لترشيد استهلاك المياه.‏

في المرات الثلاث، سبقت الشائعات الأصلية، شائعات تمهيدية، قد يكون هدفها جعل الأدمغة أكثر قابلية للغسل، زعمت أن الصين اخترعت نوعًا جديدًا من الأرز، عبارة عن خليط من نشا البطاطس ‏والبلاستيك، لا يمكن تمييزه في شكله عن الأرز الطبيعي. وحتى تصبح العقول مهيأة بدرجة أكبر، انتشرت نصائح على المواقع الإلكترونية، وعلى المنتديات والمجموعات (الجروبات) النسائية، ترشد ربة ‏المنزل «الناصحة» إلى الطريقة التي يمكنها بها اكتشاف ما إذا كان الأرز طبيعيًا أو بلاستيكيًا: انقعي كوبًا من الأرز في الماء، فإذا استقر في قاع الإناء فهو أرز طبيعي، وإذا طفا على السطح.. اطحني ‏حبات الأرز فإذا ظهر مسحوق أبيض يشبه النشا فهو أرز طبيعي، ولكن إن تشكلت مادة صفراء فهو أرز مغشوش، وأخيرًا ضعي الأرز على النار مباشرة، فإذا احترق وساح واشتعل فهو مغشوش وإذا... ‏و... و... غيرها من النصائح التي لا يمكن أن يستفيد منها أو يقوم بتطبيقها إلا كائنات تبلع.. ولا تمضغ!.‏

الأرجح، هو أن هذه الشائعات تستهدف سمعة السوق الصينية الغذائية. ومعروف أن الصين هي أكبر منتجي الأرز في العالم. وما يؤكد هذا الترجيح هو أن الظهور الأول لشائعة الأرز البلاستيك، كان ‏في جريدة «كوريا تايم» التي اتهمت الصين، في ٢٠١١، بأنها قامت بتصدير أرز مغشوش للعديد من دول العالم، تم تصنيعه من خليط البطاطا والبطاطس، إضافة إلى نكهة الأرز والصمغ الصناعي، ولا ‏يمكن تمييزه عن الطبيعي إلا بعد الطهي. وزعمت الجريدة الكورية الجنوبية أن دراسات «علمية» أفادت بأن تناول ثلاثة أطباق من الأرز المغشوش يساوي تناول كيس بلاستيكي كامل، الأمر الذي يرتبط ‏بأمراض خطيرة في الجهاز الهضمي وقد تكون قاتلة، لأنه (ثنائي فينول أ) وفئة من المواد الكيميائية تُسمى الفثالات والتي عادة ما توجد في البلاستيك، وتؤدي إلى تعطيل وظائف الهرمونات!.‏

موقع «سنوبس» المتخصص في فضح الشائعات التي تتداولها شبكات التواصل الاجتماعي، سبق أن نشر تقريرًا مطولًا في ٢٦ أكتوبر ٢٠١٦ تتبع فيه الشائعة منذ ظهورها في ٢٠١١ وانتهى في النهاية ‏إلى أن الأمر ليس أكثر من شائعة، ولا يوجد أي دليل مادي على صحتها. ومع أن سبع سنوات مرت دون أن يرى «كائن حي» هذا الاختراع، إلا أن الشائعة لا تكاد تختفي، حتى تظهر من جديد. وكان ‏ظهورها الأبرز في السعودية. وفي ٢٤ نوفمبر ٢٠١٦ أصدرت الهيئة العامة للغذاء والدواء بالمملكة بيانًا أوضحت فيه أن منتجات الأرز «تخضع للفحص الفيزيائي المشتمل على فحص النقاوة والتأكد من ‏خلوها من البذور السامة والضارة، والروائح غير المعتادة، وفحص اللون وطول الحبة، وإخضاعها لعملية الطهي للتأكد من الخواص الطبيعية للأرز، والفحص الكيميائي المشتمل على بقايا الملوثات ‏والمبيدات، والفحص الميكروبي للتأكد سلامتها وخلوها من السموم الفطرية».‏

الظهور الآخر، الخاص والمميز للشائعة، كان في ديسمبر ٢٠١٦ حين زعمت صحف ووكالات أنباء أن مصلحة الجمارك في نيجيريا صادرت كمية ضخمة من «الأرز البلاستيك»، ونسبت إلى هارونا ‏مامودو، رئيس مصلحة الجمارك بمدينة لاجوس النيجيرية، تصريحات قال فيها إنه كان من المقرر بيع الأرز المزيف في الأسواق في موسم الأعياد. وأضاف: «الأرز صار لزجًا جدًا بعد غليه، والله وحده ‏يعلم ما الذي كان سيحدث لو أكله الناس». غير أن السلطات النيجيرية نفت ذلك تمامًا. وتحت عنوان «أزمة في موريتانيا بعد اكتشاف أرز بلاستيكي»، تناول الموقع الإلكتروني لقناة «الجزيرة» القطرية، ‏الشائعة حين وصلت إلى نواكشوط في فبراير ٢٠١٧، وزعم الموقع المشبوه التابع لقناة مشبوهة، أن السلطات هناك صادرت كميات كبيرة من هذا الأرز البلاستيكي، ونسب إلى مصادر أن تلك الكميات ‏ضمن مساعدات وصلت إلى موريتانيا من دول آسيوية. ‏

على الخط، دخل الموقع الإلكتروني لقناة «الحرة» الأمريكية، ونسب إلى الخليل ولد خيري، الأمين العام لجمعية حماية المستهلك في موريتانيا، أن تجارًا موريتانيين زارهم في أسواق العاصمة نواكشوط، ‏أكدوا له وجود كميات من الأرز البلاستيكي في أسواق البلاد. غير أن القاسم ولد أقويزي، المدير العام للمنافسة وحماية المستهلك في وزارة التجارة الموريتانية، نفى وجود أي كميات من هذا الأرز في ‏البلاد. وقال: «حسب التحريات التي قمنا بها على مستوى العاصمة نواكشوط ومدينة نواذيبو (العاصمة الاقتصادية) فلا وجود إطلاقا للأرز البلاستيكي».‏

أوجز فأقول إن الأرجح، كما سبق أن أشرت، هو أن شائعات الأرز البلاستيكي، التي بدأ تداولها سنة ٢٠١١، تستهدف سمعة السوق الصينية الغذائية. إذ سبقتها سنة ٢٠٠٩ تقارير عن قيام «بكين» بإنتاج ‏حليب مصنوع من مادة «الميلامين» ونفايات كيميائية من مخلفات صناعة الدباغة، وتلتها شائعات عن اختراعها جوز هند «أسمنتي»، وبيضًا من مواد صناعية. بل إن الأمر وصل إلى حد الزعم بأنها قامت ‏بتصدير لحوم مجمدة، زاد عمر تخزينها على ٤٠ سنة. الأمر الذي يجعلك تتشكك في أن لمن يصدقون هذا النوع من الشائعات عقولًا من الأساس!.