رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ


عادة ما يكون التحذير للفرار من الشىء المخيف، كأن يفر الإنسان من كل شىء ضار، حيث الأمان والراحة والاستقرار. ولكن الأمر بالفرار هنا جاء مباشرة لمصدر الأمن والأمان «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ» ولم يحدد أى شىء، وهذا يعنى أن الله تعالى هو الأمان للإنسان من كل ما يخيف فى هذه الحياة الدنيا.
هنا ينبغى أن نأخذ الأمر مأخذ الجد. «لا ملجأ منك إلا إليك يا الله». يلجأ الإنسان إلى الله تعالى للخروج من المعاصى والخروج من الذنوب والخروج حتى من التخلف والفساد والإرهاب، ويفر الإنسان إلى الله تعالى من المرض بالدعاء وهو يقول: «اللهم اشف مرضانا». العرب والمسلمون يشكون أمراضًا وتحديات كثيرة، ولكنهم لا يفرون منها إلى الله تعالى. بعضهم يفر ولكن إلى روسيا، وبعضهم يفر ولكن إلى أمريكا. الفرار المطلوب هنا والحقيقة الخالصة هو «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ».
وهنا نقرأ ما قاله بعض أهل التفسير فى معنى قوله تعالى «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ».. ففى تفسير القرطبى نقرأ معنى قوله تعالى «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ».. قوله تعالى: ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين لما تقدم ما جرى من تكذيب أممهم لأنبيائهم وإهلاكهم، لذلك قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: قل لهم يا محمد، أى قل لقومك: ففروا إلى الله إنى لكم منه نذير مبين، أى فروا من معاصيه إلى طاعته.
وقال ابن عباس: فروا إلى الله بالتوبة من ذنوبكم. وعنه فروا منه إليه واعملوا بطاعته. وقال محمد بن عبدالله بن عمرو بن عثمان بن عفان: ففروا إلى الله اخرجوا إلى مكة. وقال الحسين بن الفضل: احترزوا من كل شىء دون الله، فمن فر إلى غيره لم يمتنع منه. وقال ذو النون المصرى: ففروا من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الشكر. وقال عمرو بن عثمان: فروا من أنفسكم إلى ربكم. وقال أيضًا: فروا إلى ما سبق لكم من الله ولا تعتمدوا على حركاتكم. وقال سهل بن عبدالله: فروا مما سوى الله إلى الله. إنى لكم منه نذير مبين، أى أنذركم عقابه على الكفر والمعصية.
أما فى تفسير الطبرى فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ».. يقول تعالى ذكره: فاهربوا أيها الناس من عقاب الله إلى رحمته بالإيمان به، واتباع أمره، والعمل بطاعته «إِنِّى لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ» يقول: إنى لكم من الله نذير أنذركم عقابه، وأخوّفكم عذابه الذى أحله بهذه الأمم التى قصّ عليكم قصصها، والذى هو مذيقهم فى الآخرة. وقوله «مُبِينٌ» يقول: يبين لكم نذارته.
أما فى تفسير السعدى فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ».. فلما دعا العباد النظر لآياته الموجبة لخشيته والإنابة إليه، أمر بما هو المقصود من ذلك، وهو الفرار إليه أى: الفرار مما يكرهه الله ظاهرًا وباطنًا، إلى ما يحبه، ظاهرًا وباطنًا، فرار من الجهل إلى العلم، ومن الكفر إلى الإيمان، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الغفلة إلى ذكر الله، فمن استكمل هذه الأمور، فقد استكمل الدين كله وقد زال عنه المرهوب، وحصل له، نهاية المراد والمطلوب. وسمى الله الرجوع إليه، فرارًا، لأن فى الرجوع لغيره، أنواع المخاوف والمكاره، وفى الرجوع إليه، أنواع المحاب والأمن، والسرور والسعادة والفوز، فيفر العبد من قضائه وقدره، إلى قضائه وقدره، وكل من خفت منه فررت منه إلى الله تعالى، فإنه حسب الخوف منه، يكون الفرار إليه، «إِنِّى لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ » أى: منذر لكم من عذاب الله، ومخوف بين النذارة.
وفى تفسير ابن كثير فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ»: «ففروا إلى الله» أى: الجأوا إليه، واعتمدوا فى أموركم عليه، «إنى لكم منه نذير مبين».
وفى تفسير الوسيط لطنطاوى فإننا نقرأ معنى قوله تعالى «فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّى لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ»: والفاء فى قوله: فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ.. للتفريع على قوله- تعالى- لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ، أى: ما دام الأمر كما ذكرت لكم من وجود التذكر والاعتبار، ففروا إلى الله من معصيته إلى طاعته، ومن كفره إلى شكره، ومن السيئات إلى الحسنات.
قال الإمام الرازى ما ملخصه: وفى هذا التعبير لطائف لأنه ينبئ عن سرعة الإهلاك، كأنه يقول: الإهلاك والعذاب أسرع وأقرب، من أن يحتمل الحال الإبطاء فى الرجوع.فافزعوا سريعًا إلى الله- تعالى- وفروا إلى طاعته، فإنه لا مهرب منه. وقوله: «إِنِّى لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ» تعليل للأمر بالفرار، أى: أسرعوا إلى طاعة الله- تعالى- إنى لكم من عقابه المعد لمن يصر على معصيته نذير بيّن الإنذار. أقول للجميع ما قاله ربهم آمرًا وموجهًا لما فيه صلاح دينهم ودنياهم: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّى لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ﴾. فروا إليه من كل ما يسخطه ويكرهه إلى ما يحبه الله ويرضاه، استشعروا الخوف منه تزدادون فرارًا إليه، وليس هناك من يفر إليه عند الخوف منه إلا الله تعالى، وإلا فجميع المخلوقات من خاف من شىء منها فر منها ولم يفر إليها. وبالله التوفيق.