رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عيوب العقلية العربيةالأخيرة

عيوب أخرى عديدة


عرضنا فيما سبق على مدى ١٢ مقالة بعض العيوب الكبرى المتأصلة للعقلية العربية، والتى يشترك فيها الجميع بشكل أو بآخر، والتى قد يجد البعض مبرراته الكافية لنفيها عن نفسه، غير أنه لا تزال هناك عيوب أخرى نوعية قد لا يشترك فيها الجميع، وإنما تخص فئات دون سواهم، لكنها فى نهاية الأمر لها تأثير فى عموم التوجه العربى وفكره إجمالا، ومنها:
التقليد والتجديد: حيث من الملاحظ أن العقل العربى يحتكم الآن لتقليد سلوك الشعوب المتقدمة فى ظاهرها دون العمق، ويأخذ منها إما سلوكيات تصدرها الميديا والإعلام، أو فكرا منقوصا بسبب النقل والترجمة، ناهيك بالطبع عن الصراع العربى العربى بين تقليد الفكر القديم وتجديد الحياة بما يتناسب والبيئة العربية، فالحقيقة أن المنزل العربى من الداخل لم يعد عربيا، بفعل الاستهلاك للوارد الغربى أو الشرقى الآسيوى، وبفعل التقليد غير الواعى الذى غدت تمارسه الشعوب.
والفكر العربى لم يعد عربيا بفعل خضوعه لنظريات العلوم الغربية المختلفة فى كل التخصصات الإنسانية والتجريبية، بل لم تعد هناك ملامح باقية من كثير من العلوم العربية التى كان لها سبق فى الإنجاز الحضارى، والكثيرون من أصحاب التخصص لا يعرفون طبيعة وحجم الأصول العربية فى تراث تخصصهم.
الخلط المصطلحى: إذ لا تزال قضية المصطلح والمفهوم من القضايا المربكة فى الوعى العربى، مما يترتب عليه الخلط فى مفاهيم الحياة، وفى المصطلحات العلمية، وتكفى مراجعة لتداول أى مصطلح علمى بين بيئة استخدامه وبين انحراف مفهومه فى وعينا العربية، سواء مصطلحات السياسة أو الأدب أو التربية أو العلوم الاجتماعية أو غيرها من العلوم، ويكفينا مثال واحد للديمقراطية أو البنائية مثلا، إذ يعرف المختصون أن مفهومها المتداول فى بيئاتها المنتجة لها يختلف تماما عن مفهومها المستخدم فى الفكر العربى، وهذا الاختلاف المفهومى يؤدى بالضرورة لخطأ فى التطبيق، وما يترتب عليه من انحراف فى المسارات، وعدم قدرة مجتمع يتحدث لغة واحدة على أن يتفاهم ويتواصل ويتحاور ويتفق على أهداف. إن أخطر ما يواجه قضية المصطلح هو الضبط المفاهيمى، فأى معنى فى الحياة لا يمكن فهمه أو تحقيقه ما لم يكن هناك مصطلح يضبطه مفهوميا ويحدد معناه بدقة ليسمح بالتالى بإمكانية تقييم ما نفعل فى سياق الصواب والخطأ، وفى سياق الفائدة أو الضرر.
التغريب: فالمواطن العربى يعيش غربتين فى آن واحد، غربة داخلية بين ما نشأ وتربى عليه، وما يتداوله من أفكار مستوردة لا تنتمى لبيئته، وغربة خارجية بين ما يعيش فيه من قوانين وأطر سياسية واجتماعية فى ظل انفتاح الحياة على مصراعيها عبر وسائل الإعلام واستخدامه الإنترنت، وخلافه، وهو ما يؤدى فى نهاية الأمر لصورة مشوهة، حتى وإن لم يتم الاعتراف بهذا التشوه، سواء من الإنسان نفسه، أو من المؤسسات المسئولة عنه، وتكفى هنا الإشارة لمجالات بعينها، مثل الفن والسينما والأدب والنظريات السياسية وغيرها مما يتم التعامل معه بفكر غربى تتم ممارسته على منتج عربى (النصوص الأدبية مثلا والتى تتم قراءتها بعقلية غربية بعد غياب مرتكزات الأدب والبلاغة العربية تماما)، وغير ذلك كثير فى كل مجالات وحقول المعرفة على اختلاف أنواعها.
هذا التغريب عايشته الدول العربية مع سنوات الاستعمار، واستطاعت بعضها العودة إلى ملامح هويتها مرة أخرى بعد زوال الاستعمار، لأنه كان هناك وعى بما يحدث واشتغال عليه من قبل علماء ومفكرين، لكن مع عصر السماوات المفتوحة الذى نعيشه الآن ونغرق فيه، غاب الوعى بخطورة ما يحدث، وتسلل فعل التغريب مرة أخرى، وتحولت شخصية المواطن العربى داخليا نحو صورة لا تمثل فى الغالب الأعم الثقافة الحقيقية للمجتمعات التى يتأثر بها عبر شاشات مسطحة، ناهيك بالطبع عن الأجيال الصاعدة من أبناء العرب الذين ينتمون فكريا وثقافيا لحضارات واردة بفعل التعليم الأجنبى والتكنولوجيا التى يعايشونها ويعيشون فيها، وسوف يكشف المستقبل القريب عن فداحة الموقف.
محاربة النجاح: إذ من المتعارف عليه الآن فى المجتمعات العربية أنه ما إن يتم الهجوم على شخص ما (مفكر، مسئول، صاحب مشروع) إلا وكان ذلك معيارا على نجاحه وكفاءته، وكأن الوعى العربى يبحث عمن يهجم عليه بدافع الحقد أو الغيرة أو الحسد أو لتعارض المصالح الشخصية (فقد تكون هناك تأثيرات مباشرة للإصلاح الذى سيقوم به هذا الشخص على المهاجمين أنفسهم)، أو لأسباب أخرى عديدة لا علاقة لها بالمصلحة العامة، وإن كان الجميع يتشدق بشعارات حول الإعلاء من المصلحة العامة على حساب الخاصة، والإعلاء من منظومة القيم والأخلاق العربية، لكنها جميعا خديعة قد لا يعلم صاحبها أنها كذلك (تصديق الوهم) أو ما يسمى مرض الميثومانيا النفسى «Mytomanie» الذى يشير إلى نموذج من يكذب ويصدق كذبه.
ختام: ربما لا يختلف أى مثقف عربى أو صاحب وعى على أن عيوب العقلية العربية الجوهرية والعارضة عديدة ومتنوعة، وأن هناك أزمات لم يتم حلها عبر أزمان عديدة، وذلك على الرغم من إسهامات المفكرين العرب وجهودهم المتعاقبة، والأسباب وراء هذه الإعاقة عديدة منها ما هو سياسى (بالقصدية أو عدم الوعى أو غياب الرؤية)، ومنها انحراف المؤسسات عن دورها المنوط بها (فلا الثقافة تقوم بدورها فى التثقيف كما ينبغى، ولا المؤسسات التعليمية تقوم بدورها فى التعليم كما ينبغى، ولا المراكز البحثية كذلك)، ومنها تكوين الشخصية العربية المأزومة فى الكثير من الجوانب، ولعل المحاولات المعاصرة تستطيع دق ناقوس الخطر، ولفت الانتباه، إلا أن الذى لا خلاف عليه هو ضرورة عناية الدول بهذه العيوب، والعمل سريعا على علاجها بالعودة إلى العلم وعصر العلم والمنهجيات العلمية التى يمكن وضعها من قبل أبناء العرب أنفسهم من علماء ومفكرين وأصحاب وعى، وما أكثرهم!.