رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الجزية.. أو ثمن الحماية الأمريكية


لم نخرج من حوار السياسات المتناقضة، أو من قمة ترامب وماكرون، إلا بذلك التصريح الذي، هدّد فيه الرئيس الأمريكي، بصراحة أو بوقاحة، بعض الدول في منطقة الشرق الأوسط بأنها «لن تصمد ‏أسبوعًا دون الحماية الأمريكية»، قبل أن يبتزها ويطالبها بضخ الأموال والجنود لدعم الجهود الأمريكية في سوريا.‏

لم يذكر دونالد ترامب دولًا بالاسم، خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده، الثلاثاء، في البيت الأبيض مع نظيره الفرنسي، إيمانويل ماكرون. لكن وكالة الأنباء السعودية (واس) نقلت عن عادل الجبير، وزير ‏الخارجية السعودي أنه «يجب على قطر أن تدفع ثمن وجود القوات العسكرية الأمريكية في سوريا وأن تقوم بإرسال قواتها العسكرية إلى هناك، وذلك قبل أن يلغي الرئيس الأمريكي الحماية الأمريكية لدولة ‏قطر». وأضاف الجبير أن الولايات المتحدة لو قامت بسحب حمايتها المتمثلة في القاعدة العسكرية من قطر، فإن النظام سيسقط هناك خلال أسبوع.‏

ما قاله الرئيس الأمريكي، وشرحه وزير الخارجية السعودي ليس جديدًا، إذ كان الأول قد نشر تغريدة على «تويتر» في ديسمبر الماضي، قال فيها إن واشنطن «صرفت بسخافة سبعة تريليونات دولار في ‏الشرق الأوسط». غير أن ما فات الجبير، أو «فوّته»، هو أن «ترامب» سبق أن شكا، منذ سنة بالضبط، من أن «واشنطن تخسر أموالًا هائلة للدفاع عن السعودية». وأضاف في التصريحات، التي نقلتها ‏كل وسائل إعلام الدنيا، بينها وكالة «رويترز»، أن المملكة «لا تتعامل بشكل عادل مع الولايات المتحدة». ووقتها طالب أيضًا كوريا الجنوبية بأن تدفع مليار دولار ثمن منظومة «ثاد»، ‏THAAD، أو الدرع ‏الصاروخية الأمريكية، التي اتفق الحليفان على نشرها للتصدي لتهديدات كوريا الشمالية. ووقتها ردت سيول بـ«لن ندفع» وأنها غير ملزمة إلا بتقديم الأرض والبنى التحتية.‏

الرقم الذي ذكره «ترامب»، يزيد كثيرًا على ذلك الذي توصل إليه مشروع تكلفة الحرب أو «‏Costs of War‏» الذي أطلقه فريق من الخبراء من جامعة براون التي ذكرت أن حروب الولايات المتحدة ‏حول العالم كلفت دافعي الضرائب الأمريكيين حوالي ٥.٦ تريليون دولار. وهو الرقم الذي شككت فيه مجلة «‏The Nation‏»، مطلع يناير الماضي، وذكرت أنه أقل بكثير من التكاليف الفعلية التي قدرها ‏خبراء بـ٨ تريليونات دولار. وأشارت إلى أن للولايات المتحدة تواجدا عسكريا في ٧٦ دولة، غير الدول التي يقوم فيها خبراء أمريكيون بتدريب قواتها المحلية. وتلك التي تقوم فيها القوات الجوية الأمريكية ‏بتوجيه ضربات جوية منتظمة. ‏

منذ كان «ترامب» مرشحًا للرئاسة وهو يردد تصريحات شبيهة. وسبق أن قال، مثلًا، خلال مؤتمر انتخابي في «ويسكونسن»: «لن يعبث أحد مع السعودية لأننا نرعاها.. مع أننا نخسر الكثير من المال ‏ولا نأخذ ثمنًا عادلًا في المقابل». وسبق أن أوضحنا في مقال أو مقالات سابقة أن «ترامب» لا يختلف عن سابقيه إلا في تسميته للأشياء بمسمياتها. وأن ما طالب به كوريا الجنوبية والسعودية لم يكن جديدًا، ‏وأنه لا يمكن وصفه بأنه «بلطجة»، لأن المال مقابل الحماية، ليس أكثر من نظام معمول به من قديم الأزل، تصفه اللغة الإنجليزية «‏tribute‏» أو «‏royalty‏» ويوصف في اللغة العربية بـ «الإتاوة» أو ‏‏«الجزية» وقيل ضُربت عليهم الإتاوة أو الجزية، إذا دفعوا لحاكم أو لأمَّة، كرهًا أو طوعًا، ثمن أمنهم.‏

لو كانت ثقافتك «شوارعجية» فأسرع ما قد يخطر على بالك هو أن الرئيس الأمريكي يطبق قاعدة «أبّجني تجدني». و«أبجني» كلمة دارجة، لا أعرف أصلها، لكن أعرف، كما يعرف كثيرون، أن ‏معناها هو «أعطني مالًا» أي «هات فلوس». ولو كانت ثقافتك أرفع قليلًا، فربما تستدعي ذاكرتك ما قرأته عن زمن «الفتوات» الجميل، وتترحم على الأستاذ نجيب محفوظ. أما لو كانت ثقافتك ‏‏«إسلامية»، فستكتشف أن ما يطالب به «ترامب» أو ما يحاول فرضه هو «الجزية»، وإن كانت الإشارة واجبة إلى أنها لم تكن اختراعًا إسلاميًا، وإنما كانت ضريبة معروفة قبل الإسلام. وعليه، كان ‏طبيعًيا أن يطرح خالد الهيل، المتحدث باسم المعارضة القطرية، الأربعاء، هذا السؤال في حسابه على «تويتر»: «هل سيدفع تميم بن حمد الجزية صاغرًا لواشنطن؟». ‏

رد فعل وزير الخارجية السعودي على تصريحات ترامب، وقيامه بذكر اسم قطر تحديدًا، قد يجعلك تتذكر اعترافات حمد بن جاسم، رئيس الوزراء القطري السابق، حين حل ضيفًا، أواخر أكتوبر ‏الماضي، على تليفزيون قطر الرسمي، بأن إمارته دعمت جماعات إرهابية في سوريا، عبر تركيا، بالاتفاق مع السعودية وبالتنسيق مع القوات الأمريكية وأطراف أخرى. وهو الحوار نفسه، الذي اعترف ‏فيه بصحة التسجيلات المسربة التي تآمر فيها هو وأمير قطر السابق، حمد بن خليفة، مع الرئيس الليبي الراحل معمر القذافي على عدد من دول المنطقة، وورد ذكر ثلاث دول بالاسم: السعودية، الأردن.. ‏ومصر!.‏

في ذلك الحوار، لم يجد المسئول القطري السابق (والحالي) حرجًا في أن يقول: «تهاوشنا على الصيدة، وفلتت الصيدة وإحنا قاعدين نتهاوش عليها». ولا أعتقد أن هناك انحطاطًا أدنى من الاعتراف بأن ‏دولة بأرضها وشعبها، لم تكن بالنسبة للمذكور ولمن استعملوه غير «صيدة». وطبيعي أن تكون تلك هي القاعدة الحاكمة لما قام به المستعملون (بكسر الميم الثانية وفتحها) في كل دول المنطقة. وبالتالي ليس ‏منطقيًا أو معقولًا أن يعتقد أحد الأطراف (أو الشركاء) أن الشريك الأكبر أو المستعمِل (بكسر الميم) يقصد طرفًا (أو شريكًا) دون آخر!.‏