رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عبدالرحيم طايع يكتب: صعيد الدراما المصرية.. والصعيد الذى أعرفه ‏

عبدالرحيم طايع
عبدالرحيم طايع



أتابع، لو وجدت وقتا، ما يقدمه التليفزيون من الدراما لا سيما المسلسلات، وبشكل أكثر تحديدا ما تدور أحداثه فى الصعيد.. «الصعيد الجوانى» بالذات، ربما بحكم انتمائى إلى تلك المنطقة الغالية ‏بمصر، ودرايتى الأكيدة بقضها وقضيضها وحياتى الطويلة فيها قبل أن أغادرها إلى القاهرة العزيزة.. يُدهِش الآخرين أننى دائما ما أقول، بعد متابعتى عملًا من هذه الأعمال: ليس الصعيد الذى ‏شاهدته على الشاشة الصغيرة من الصعيد الذى أعرفه بمكان!.‏
يسألوننى وأجيب، ويكتشفون بى الخطايا والأخطاء، ونعزو ما يجرى إلى الاستسهال والمجانية التى يعامل بها طاقم هذه الأعمال الدرامية موضوعاتنا وقضايانا!.. أولا: لماذا التوسع الهائل فى ‏الدراما الصعيدية (لو جاز التعبير)؟!.. فعلوا ذلك لسببين خائبين فى اعتقادى، أولهما: إزاحة وهم اهتمامهم بالقاهرة وحدها، وأظن ثانيهما ضمان جذب الناس بما تحويه مثل هذه الدراما من أزياء ‏فلكلورية ولهجات حادة صارخة وتقاليد عجيبة وأحداث أكثر إثارة فى حضور السلاح والمخدرات والآثار..وكلها مما تفضّل الدراما حضوره وتؤثره على ما عداه ولو كان تقليديا بائسا!.‏
وكم أقول: لدينا النوبة والدلتا، وهما قريبتا الشبه بالصعايدة (صعايدة الجنوب بالذات)، فلماذا يصرون على الصعيد المقصود وحده؟!.. وأجد إجابة شخصية ليست بلطيفة: ارتباط الصعايدة، عند أكثر ‏المصريين والعرب، بمعنيين متناقضين هما النكتة التى تثير الضحك والفواجع الثأرية التى تثير البكاء، هذا الموروث الخاطئ الذميم هو ما جعلهم يتوقعون نسب مشاهدة أعلى ولا يندمون على مال ‏ولا جهد أنفقوهما مهما كانا!.. وأصدم نفسى بالسؤال الجديد الناجم عما سبقه: أنحن، الصعايدة، أفكار مثيرة للضحك حقا وخيوط دماء لا حد لامتدادها؟!.‏
وأرد بنفسى على نفسى مجدَّدا: لسنا سوى بشر طبيعيين، لنا خصوصيتنا، النكتة اخترعها مريدو التفريق بيننا وبين مواطنينا فى كل مكان بالوطن، وقلناها على أنفسنا غير مبالين برسوخها فى ‏الأرض وهذا عين الخطأ، وكم وُصِفَ غيرنا بأبشع مما وُصِفْنَا به لكن خلدت أوصافنا السلبية دون أوصاف الآخرين لفرط طيبتنا وتسامحنا وترفعنا عن الصغائر، أما الثأر فعادة لعلها تعبر عن عدم ‏استهانتنا بالحقوق فوق ما تعبر عن محبتنا للدماء، وها هم أكابر السياسيين والمناضلين فى عالمنا العربى والعالم يحضون عليه حين يعمّ الظلم ولا ينفع تفاوض ولا يشفع ماضٍ لعلاقات الطيبة بين ‏المتخاصمين!.. الدراما المنسوبة إلى الصعيد دراما مفتعلة من أولها لآخر حلقاتها، إلا الندرة، ولا تقدم صعيدا حقيقيا مقدار ما تقدم نفسها على أنها الصعيد الحقيقى.. وشتان!.‏
الأخطاء ألوف مؤلفة من كل جهة، وحتى مصححو اللهجات ممن تكون أصولهم صعيدية غالبا يجرون على جرى الممثل المتعالم والمخرج المتغاضى والمنتج الذى لا يريد إهدار الوقت فيما يراه ‏ليس مهما كاللفظ السليم والأداء المستقيم!.. راقنى، على مدى تاريخ هذه الدراما، ثلاثة أعمال أو أربعة على الأكثر، لا أذكرها ها هنا إكراما للمشاهدين لا بخلا واستعلاء، فلا حجر عليهم فيما أحبوه ‏أو كرهوه بعيدا عن النقد والتحليل!.. ومثلا «الصعيد المدنى» أين هو فى هذه الدرامات المتتالية كطلقات مدفع رشاش؟!.‏
قلت لسيناريست أعرفه هذه التركيبة اللغوية الصغيرة.. تركيبة «الصعيد المدنى»، فذهل لأنه لم يكن يعرف الفرق بين الصعيدين.. المدنى الذى أقصده، أى المنسوب إلى مدن الصعيد الكبرى، ‏والقروى الذى أدمنت الدراما المقصودة تقديمه لا لشىء إلا كونه اللون الفاقع الذى يخطف أعين الناس خطفا ويجمعهم حوله، مع العلم بأن الآخر هو الأكثر غنى وخطورة!.. أحيانا يصيبنى اليأس من ‏كسل «الحالة الفنية» فى مصر وميلها إلى المضمون لا المأمول، ولا أرى سبيلا لتصويب الخطأ الدرامى الجسيم الذى شوه ملامح الصعايدة ولم ينصف بيئتهم إلا بعمل جديد كبير صادق، يمحو خطأ ‏الماضيين البعيد والقريب، ويؤكد جدارة الفن بالمجتمع.‏
الزى الصعيدى تغير، والعادات والتقاليد ذهبتا ما بين تطور واندثار، والثأر مضت أيامه الكبرى التى أضاء سماواتها رصاصُه، والمخدرات لم تكن يوما ثقافة خالصة للصعيد ولا تهريب الآثار ‏للأمانة، أما اللهجة فظلت كما هى، لكن بطريقتها لا بطريقة الدراما الملتوية الفجة، وبعض الصعايدة استبدلوا بها القاهرية وبعضهم استبدل بها الخليجية والإنجليزية والفرنسية والروسية.. وبالبداهة ‏إنها لو كانت صحَّت المعرفة بالوطن العزيز لكانت صحَّت الدراما المعبِّرة عن أجزائه!.‏