رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«الراهب».. احتفاء خاص بذكرى رحيل جمال حمدان

جمال حمدان
جمال حمدان

ملف أعده : أحمد عاطف - حسن الهتهوتى - عبدالله هشام - إسلام الشرنوبي - إيهاب مصطفى - نادية مبروك - سالى رطب - هايدي حمدى - دعاء راجح - ايمان قمر - مها البديني - وليد صلاح - خلف جابر


- نص مقال تاريخى لـ«صاحب شخصية مصر» عن «الاستعمار التركى»
- إمبراطورية دينية طائفية ضيقة الأفق

انعزل عن الحياة كأنه «درويش»، وأغلق بابه عليه بعد أن تقدم باستقالته من كلية الآداب جامعة القاهرة، مقاطعًا الجميع، رجال إعلام وسياسيين، واضعًا أمام عينيه هدفًا واحدًا.. التفرغ للكتب والأبحاث.

العالم الكبير الراحل، جمال حمدان، العبقرى صاحب «شخصية مصر»، الذى قضى طفولته بين زراعات قرية «ناى» بمحافظة القليوبية، وأحب خلالها كل ما هو طبيعى، ليتحول بعدها بسنوات إلى «عرّاب» يحوّل كل تفاصيل المجتمع إلى جغرافيا خاصّة به، ما مكنه من رؤية مستقبل الأمّة، ومشاهدة ما سيحدث فى مجتمعنا قبل عقود من وقوعه.
«الدستور» تحتفى بـ«مؤرخ المستقبل»، فى ذكرى رحيله ١٧ أبريل ١٩٩٣ فتتوجه إلى مسقط رأسه، ناقلة مطالب أهالى قريته بالاحتفاء به، وصولًا إلى شقته بمنطقة الدقى، حيث صاغ درره الفكرية ولقى ربه، وتنشر رسائل نادرة بينه وبين الكاتب الكبير أنيس منصور، بجانب الكشف عن أسرار جديدة من حياته خلال حوار مع الكاتب يوسف القعيد.

لم يكد الاستعمار الدينى المسيحى ينحسر عن الساحل الجنوبى حتى ورثه استعمار دينى آخر، وإن اختلف الدين، فمن الساحل الشمالى مرة أخرى من الأناضول جاءت موجة الاستعمار التركى، وهو نوع محير من الاستعمار لأنه كاستعمار دينى إنما اتخذ من وحدة الدين غطاءً يخفى به حقيقته كاستعمار سياسى لا شك فيه.

وفى روح العصر الدينية، وبفضل تراث الحروب الصليبية، استطاع الاستعمار التركى أن ينجح، لا فى اكتساح العالم العربى بسرعة فحسب ولكن فى البقاء فيه قرونا برمتها، أربعة قرون. ومن المؤكد أنه لولا الوشيجة الدينية فى عصر الدين بالضرورة لكان مصير الاستعمار التركى منذ البداية كمصير الغزو المغولى الوثنى الذى سبق بقليل، وقام له العالم العربى والإسلامى قومه أكثر من فدائية.
ولكن القناع الدينى الوهمى الذى خدع العالم العربى فى البداية لم يلبث بعد قليل أن تمزق، فكان رد الفعل القومى عنيفًا فى النهاية.
ولم يقلل من هذه الحقيقة أن الاستعمار الدينى التركى لم يقتصر على العرب المسلمين على الساحل الجنوبى للبحر المتوسط بل عبّر المضايق إلى أوروبا المسيحية حتى طرق أبواب فيينا، وسيلاحظ أن الاستعمار التركى اكتسح العالم العربى فى سرعة غير عادية، ففى نحو عقد كان قد غطى الجزء الأكبر منه، ولكن ثمة جُبّين رئيسيين هامشين لم يخضعا، لا اسما ولا فعلًا، للاستعمار التركى: مراكش، أو المغرب الأقصى فى أقصى الغرب، وساحل الخليج الفارسى «العربى» ابتداءً من الحسا والكويت حتى عمان فى أقصى الشرق.
ولقد كان الاستعمار التركى يقوم على نوع من التفرقة العنصرية بين التركية أو الطورانية «المجنس السيد» فى ناحية، والعرب أو الفلاحين كالجنس المحكوم- ولا نقل حتى كمواطنين من الدرجة الثانية- فى الناحية الأخرى. وفى ظل هذه النعرة العنصرية اتخذ المستعمر التركى سياسة العزلة والترفع، فتقوقع اجتماعيًا وجنسيًا فى شكل مستعمرات مغلقة تتزاوج داخليًا ولهذا كان أثرها فى العالم العربى ضئيلًا حتى انقرض، ولم تكن الإمبراطورية العثمانية تختلف فى الجوهر عن الاستعمار الأجنبى الحديث: فقد كانت تركيا هى «المتروبول» وبقية الإيالات والولايات مستعمرات تابعة، تعتصر كل مواردها وخيراتها، بلا مواربة لتحشد حشدًا فى المتروبول، وقد كانت عظمة وخيلاء الأستانة هى تعاسة وابتزاز الأقاليم.
أما دينيًا فقد قامت الإمبراطورية الدينية التركية على سياسة طائفية عاجزة ضيقة الأفق هى «سياسة الملة» milet system التى تفاقمت، خاصة فى أخريات الإمبراطوريات، وقد نشأت سياسة الملة نتيجة لقصر نظر الاستعمار التركى من ناحية وضعفة وعجزه أمام ضغط القوى الأوروبية من ناحية أخرى، فرغبة فى سياسة «فرق تسد» حدد الأتراك مسئولية الأقليات الدينية فى زعاماتها وقياداتها الطائفية، فبدأت من هنا تبلور شخصياتها داخل جسم الدولة، ثم تجمدت حين فرضت القوى الأوروبية نوعًا من الحماية على هذه الطوائف، وانتزعت لها من الدولة مثل الامتيازات الأجنبية التى كانت لها، ثم الحكم الذاتى فى بعض الحالات. وفى هذا سنلاحظ المسحة الدينية مرة أخرى فى تركيب الاستعمار الوسيط، ويمكن القول إن نظام الملة هو الأب المباشر لمشكلة الطائفية التى كانت تعرفها أجزاء من العالم العربى، لقد كانت إرثًا من الاستعمار التركى لا شك فيه.
أما من الناحية الحضارية فالاستعمار التركى نوع شاذ- سالب ربما- من الاستعمار. فإذا كان الاستعمار السياسى بالمفهوم الحديث هو فى التحليل الأخير سيطرة حضارة راقية على حضارة متخلفة. فقد كان العكس هو الأساس فى الاستعمار التركى، فقد بدأ كقوة استبسية محاربة بحتة، قوة فرسان هدامة من الرعاة بلا حضارة ولا جذور تاريخية، بل وبلا وطن أم حدد، هذا بينما كانت الإمبراطورية تتألف من شعوب عريقة قديمة مستقرة وحضارات زراعية راقية. ولكن القوة الحربية العمياء فقط. قوة الخيالة إزاء المشاة هى التى قلبت التوازن، والواقع أن الأتراك إذا كانوا قد استعمروا العرب سياسيًا فقد استعمرهم العرب حضاريًا، بمثل ما أن الرومان من قبل استعمروا اليونان حربيًا ولكن اليونان استعمروهم ثقافيًا. فبينما لم يترك الأتراك أى أثر حضارى بناه فى العالم العربى كانوا عالة على تراث العرب- ابتداء من العمارة حتى شكل الكتابة ومن الصناعة حتى الثقافة.
وبعامة فقد كانت «الاستعارة» التركية نهيًا حضاريًا وابتزازًا مخططًا للموارد يقوم على مبدأ skim the cream، ولم يقتصر هذا المبدأ على الموارد والقوى المحلية زراعية أو صناعية، وإنما امتد أيضًا إلى الموارد الخارجية، أعنى مكاسب تجارة المرور الهامة، فقد فرض الأتراك- وقد أصبحوا سادة بين جميع الطرق البرية «الأوفرلاندروت» بين الشرق والغرب- سياسة جمركية غبية لا أخلاقية على أحسن تقدير، وأدت هذه التجارة الحيوية، ومن الثابت تاريخيًا أن ابتزاز الأتراك للتجار الأجانب والتجارة العابرة كانا من أكبر الأسباب التى دفعت الغرب وأوروبا المسيحية دفعًا إلى البحث المستميت عن طريق بديل إلى الشرق، حتى جاءت بالفعل ضربة طريق الرأس القاضية، وقد كان طبيعيًا أن يعنى هذا لا الجمود والتوقف فحسب وإنما التدهور الحضارى كذلك.

والواقع أن الاستعمار التركى هو الذى مهد الطريق- حضاريا وتكنولوجيا- للاستعمار الأوروبى فى العالم العربى، فلقد رأينا أن العالم العربى الإسلامى وقف إلى ما قبل قدوم الأتراك إزاء العالم الأوروبى المسيحى موقف الند للند فى حالة زهو عسكرى يرين على خندق البحر المتوسط، ومنذ الاستعمار التركى فقط بدأ الافتراق بين المستوى الحضارى والفنى للغرب والعرب: الغرب إلى أعلى والعرب إلى أسفل، كان الاستعمار التركى نقطة الانعكاس فى المنحنى الحضارى وخط التقسيم بين تقدم الغرب وتخلف العرب، فبينما كان العالم العربى يتدهور بخطى حثيثة، كانت النهضة الأوروبية بعثًا Risorgimento حقيقيًا ومطردًا لم يلبث أن طفر فى قفزات ثلاث هى الانقلاب التجارى Commercial R، ثم الميكانيكى Mechanical R، وأخيرًا الانقلاب الصناعى، وقد تعاصر الانقلاب الأول مع أوائل الاستعمار التركى، بينما تعاصر الانقلاب الأخير مع أواخره.
فأما الانقلاب التجارى الذى بدأ مع طريق الرأس فقد نقل ثروة الشرق إلى أيبريا والبرتغال خاصة، وصب فيها من الحياة والحيوية بقدر ما أسر من الشرق العربى، وبهذا الانقلاب «سرقت» منه موقعه الجغرافى وطوقته من الباب الخلفى بعد إذ عجزت من قبل من الباب الأمامى، ومع هذا الالتفاف حاول البرتغال خاصة إحياء الاستعمار الدينى الصليبى فى شكل «الاستعمار الكاثوليك»» وقد رسم هذا الاستعمار كماشة خلفية حول العالم العربى أطبق فكيها على مراكش فى الغرب وعلى سواحل الجزيرة العربية على الخليج الفارسى فى الشرق، ففى مراكش بدأ الإسبان والبرتغال يتقاسمان النفوذ ومواطئ الأقدام ابتداءً من سبتة ومليلة حتى موجادور وإفنى، أما على الخليج العربى «الفارسى سابقًا» فقد أقام البرتغال المواقع الحربية «Factories» فى هرمز ومسقط وعمان والبحرين، وكما فشل الاستعمار التركى فى البحر المتوسط شمالًا ضد القوى الأوروبية فى لبيانو، فشل فى بحر العرب والهند جنوبًا ضد البرتغال فى ديو. هذا عن نتائج الانقلاب التجارى الأول.
أما الانقلاب الأخير- الصناعى- فهو الذى حمل الاستعمار الأوروبى الحديث مباشرة إلى المنطقة، لهذا فليس صحيحًا فى هذا الصدد أن الاستعمار التركى هو الذى وقف حائلًا أمام الاستعمار الأوروبى وحمى منه الشرق العربى، بل إن العكس هو الصحيح تمامًا! فبصرف النظر عن تخريب القوة الذاتية للعالم العربى على يد الاستعمار التركى، بدأ التوغل الأوروبى فى المنطقة عن طريق «الرجل المريض» وبفضل عجزه، وفى النهاية كانت هزيمة الاستعمار العثمانى هى السبب المباشر فى انقضاض الاستعمار الأوروبى على المنطقة.. وليس يقل عن ذلك سخرية دعوى هذا الاستعمار الأوروبى بدوره فيما بعد بأنه هو الذى «حرر» المنطقة من الاستعمار التركى!
إنما الصحيح أن مضاربات ومناورات ومصالح الاستعمار الأوروبى هى التى أطالت صناعيًا فى حياة الاستعمار التركى فى المنطقة، بينما كان الاستعمار التركى الهدام هو الذى أعد المنطقة فريسة عاجزة للاستعمار الأوروبى ثم سلمها هدية غير مقصودة له، أو مقصودة! لأننا نعلم أن تركيا، تحايلًا منها على البقاء أطول مدة ممكنة إزاء الضغوط الخارجية والانحلال الداخلى، كانت تبيع حرية ومصير الولايات الخاضعة لها لتشترى بقاءها، فكانت تتنازل عن ولاياتها واحدة بعد الأخرى للاستعمار الأوروبى حتى لا يجهز عليها هى فى عقر دارها...
من كتاب «الاستعمار والتحرير فى العالم العربى»
دار العلم ١٥ ديسمبر ١٩٦٤- المكتبة الثقافية