رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الوعى بالمستقبل


علاقة العقل العربى بالمستقبل ملتبسة ومُشكلة، فالعربى يؤمن بأن المستقبل بيد الله، وأنه يجب أن يعمل لدنياه كأنه يعيش أبدًا، ولآخرته كأنه يموت غدًا، غير أن الواقع الفعلى يكشف عن أن مفهوم «الحديث الشريف» تحول لمجرد شعار يردده العربى ولا يمارسه.
ففى وعينا العربى العام، نحن قوم نؤجل أشياء جوهرية فى الحياة، نؤجل اللحظة التى نعيشها ودومًا نرهنها بالمستقبل، نؤجل الفرح، ونؤجل المتعة، ونتوجس إن طربنا لعله يكون نذير شؤم، ونؤجل الشعور بالحياة ذاتها.
التأجيل مكون أساسى من مكونات العقلية العربية، والأمثلة على ذلك كثيرة..
تأجيل الفرحة
يُولد المولود فنؤجل الفرح به إلى أن يكبر ويلتحق بالمدرسة، فلما يحدث نؤجل الفرح به إلى مرحلة التى ستليها، حتى ننتظر الفرحة بالتخرج والحصول على الشهادة العلمية، فلما أن يتخرج ويُنهى مراحله التعليمية، نؤجل الفرحة حتى يحصل على عمل، ثم نؤجل حتى يتزوج أو تتزوج، ثم نؤجل لكى نفرح بالإنجاب، فلما يحدث نؤجل حتى يكبر المولود، ثم يلتحق بالتعليم، ثم يتخرج، وهكذا تظل الفرحة العربية مؤجلة إلى ما لا نهاية، وبالطبع فإنها لا تأتى أبدًا.
وقياسًا على ما يحدث مع نظرتنا لأبنائنا، كذلك تمضى حياتنا، فنؤجل اللحظة التى نعيشها، ونفكر فى عواقبها، نخشى من المستقبل على لحظتنا الراهنة، نخاف من المستقبل ذاته ونطمئن إلى الماضى، نخشى إن فرحنا أن تزول المتعة فنقلل الفرح، ونخشى إن أصابنا الخير أن يزول فنتوجس خيفة، وهكذا الأمر يمضى فى العقلية العربية، على الرغم من أن كل الديانات تبشر الإنسان بالخير وتقرن إرادة الإله دومًا بالخير له، وعلى الرغم من كل الدفاعات النفسية التى حاول البحث العلمى تقديمها لإعادة ثقة الإنسان العربى بالحياة ودفعه لإحداث التوازن بين الاحتفاء بهذه الحياة والاحتفاء بالموت.
تأجيل المتعة
وكما كانت الفرحة مؤجلة، فإن المتعة دومًا مؤجلة، فالعقلية العربية على اختلاف انتماءاتها وشرائحها تنظر لكل ممتع نظرة الريبة.
فإما أن يعده البعض مخالفًا للشرع وتعاليم الدين، وبالتالى يقر فى باطنهم أن كل ممتع حرام، غير أنهم فى الآن ذاته لا يتوقفون عن ممارسته والقيام به، وإنما يفعلونه فى السر، ويبرره البعض لأنفسهم ويحرمونه على أغيارهم.
أو يتصوره البعض عزيزًا شحيحًا، وبالتالى فإن الحصول عليه لا يتم إلا فى سياق السرقة من الحياة والاختلاس، وهو تصور ناتج عن الوعى العام الذى أسست له كتب الأدب والفن والسياسة والاجتماع.
أو يتصوره البعض عارًا مشينًا لا ينبغى التفكير فيه، حتى وإن كان واقعًا فى إطار المتعة الحلال، كما أقرتها الشرائع والديانات.
وهكذا يستمر الأمر فى سياق تأجيل المتعة أو تحريمها أو إخفائها، ناهيًا بالطبع عن اختلاط مفهوم المتعة وانحرافه دومًا نحو غريزة الجنس، على الرغم من اتساع مفهوم الممتع ليشمل متعة الطعام والشراب والنوم والاستيقاظ، ومتعة اللحظة والرحلة والمسيرة والمسار، ومتعة المهارات الخاصة والإمكانيات التى يمتلكها كل فرد على وجه الأرض، ومتعة العقل عندما يمتلك ما يسمح له بتكوين وجهة نظر مبنية على أسس منطقية وعلمية، وغيرها كثير من المتع التى يؤجلها الإنسان العربى بدافع الجهل أو المفاهيم المغلوطة أو الخوف من المصير، وكلها أمور يمكن معالجتها لو كان هناك الوعى الكافى بها وبأبعادها، ولو كانت هناك مساحة من الوضوح فى معاملات الإنسان العربى وأساليب تفكيره.
تأجيل الحياة
وهو التسويف بأننى سأفعل ذلك غدًا، أو فى وقت لاحق، أو عندما تحين الفرصة، أو بعد أن تنتهى المرحلة الفلانية، وهكذا من أشكال تأجيل الحياة بدوافع متعددة تعود للحسابات المخطئة أحيانًا، ولعدم القدرة على اتخاذ القرار نفسيًا أحيانًا أخرى، ولسطوة المجتمع وتردى أوضاعه أحيانًا ثالثة.
وتتعدد أشكال هذا النوع من التأجيل، بين التأجيل لاعتبارات الدين، أو لاعتبارات اقتصادية، أو لاعتبارات الطموح العملى أو الوظيفى.
فالمتدينون مثلًا يؤجلون حياتهم فى الدنيا لحياتهم فى الآخرة دون أن يدركوا بالطبع الفقه الصحيح للآيات والنصوص الإسلامية والمسيحية، التى تدعوهم للعمل الصالح فى الدنيا ليجدوا الحياة الهنيئة فى الآخرة، وهو فهم منقوص حتمًا لأن المقاصد الشرعية للدين تنفى هذا التصور، بل يوجد على المقابل كثير من الدلائل على أهمية إعمار الأرض وأخذ النصيب من الدنيا، ولكن يبدو فى نهاية الأمر أن نظم الحكم منذ القديم عملت على تعزيز ذلك، لأنه يحقق شكلًا من أشكال تسييس المجتمع وإحكام السيطرة عليه، ثم ما لبثت المجتمعات أن انفصلت عن جوهر تدينها واخترعت هى معتقداتها الشعبية، التى تساعد على تأجيل الحياة على الدوام.
والذين لا تكفيهم مواردهم لسد حاجاتهم يؤجلون حياتهم على أمل تحقيقها فى المستقبل، وعندما يمتلكون الموارد الكافية يكون التأجيل قد تحول لطبع أصيل فى دمائهم، وبالتالى تظل حياتهم مؤجلة إلى الأبد، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها العديد من أبناء الشعوب العربية عندما يسافرون للعمل فى دول تمنحهم رواتب مضاعفة ربما مرات قياسًا لما كانوا يتحصلون عليه فى بلادهم، يظل هؤلاء فى حالة تأجيل لحياتهم حتى يعودوا لبلادهم، لكنهم أيضًا تسرقهم الحياة ولا يعيشونها حتى بعد عودتهم، وغيرها كثير من نماذج أخرى تؤجل حياتها لاعتبارات مادية.
ويأتى الشكل الثالث متمثلًا فيمن يؤجلون حياتهم لاعتبارات الطموح العملى أو الوظيفى وهم غير قليل فى واقعنا العربى ممن يسرقهم طموحهم وسعيهم المتواصل دون أن يعيشوا حياتهم على نحو طبيعى، ويدركون بعد فوات الأوان أن الحياة قد سبقتهم بكثير، ولعل نموذج «عثمان بيومى» فى رواية «حضرة المحترم» لنجيب محفوظ دال على هذا النمط، وغيره كثير فى الأدب وفى حياتنا الواقعية ممن يوجد بين الجيران والأقارب والمعارف وزملاء العمل، ممن يؤجلون حياتهم حتى الانتهاء من مرحلة ما، فتسرقهم إلى مرحلة تالية، ثم التى تليها، وهكذا تمر الحياة دون أن يعيشوها.
هؤلاء جميعهم «المؤجلون للاعتبارات السابقة» تنقضى أعمارهم دون أن يطرح أحدهم على نفسه سؤال الحياة: «ماذا عن فن الحياة؟» ذلك السؤال الغائب دوما بسبب اعتقادات مخطئة، قد يعود بعضها للفهم الخاطئ أيضًا للدين فى ترغيب البشر للعمل من أجل الآخرة التى سيكون فيها النعيم الدائم والراحة الأبدية والتى لا يمكن تصويرها بمفردات العقل الإنسانى، وذلك إذا عمل صالحًا فى الدنيا وأجل انتظار الثواب إلى الآخرة.