رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الدستور تنشرها كاملة احتفاءً بـ«ثمانينية» الشاعر الباكستانى الأشهر

خاص.. نص كلمة طه حسين فى حفل تأبين محمد إقبال

طه حسين
طه حسين

- خرج من الدنيا لا يملك شيئًا.. وترك للبشرية أدبًا بـ«الأُردية والفارسية والإنجليزية»

قبل ثمانين سنة، وتحديدا فى ٢١ أبريل ١٩٣٨، رحل الشاعر الباكستانى الأشهر محمد إقبال، الذى يُلقب بـ«شاعر الشرق» و«فيلسوف المتصوفة»، بعد أن ترك أثرًا فى عصره، امتد إلى أجيال أخرى كثيرة.
«إقبال» هو الشاعر والمفكر الذى يعرف المصريون والعرب كلمات كثيرة له أشهرها قصيدة «حديث الروح» التى غنتها السيدة أم كلثوم بلحن رياض السنباطى عام ١٩٦٧.
ولد «إقبال» فى نوفمبر ١٨٧٧، ورحل عن ٦١ سنة، ويعتبر صاحب الفضل الأول فى إنشاء دولة باكستان، إذ نادى بانفصالها عن الهند كضرورة لتأسيس دولة للمسلمين، وتحقق حلمه بعد نحو ١٠ سنوات من وفاته، فى أغسطس ١٩٤٧. كانت لأشعاره وأفكاره نزعة تجديدية وثورية واضحة، وحظى بدراسات عديدة من مثقفين كبار، أمثال محمود عباس العقاد الذى ترجم له «تجديد التفكير الدينى فى الإسلام»، وطه حسين، الذى عقد مقارنة بينه وبين الشاعر العربى القديم أبى العلاء المعرى، وجمع بينهما فى أنهما «رفعا مجد الآداب الإسلامية إلى الذروة، وفرضاها على الزمان».
الأوساط الثقافية توقفت ولسنوات كثيرة عند وفاته، وظل عدد كبير من المثقفين يحتفون بذكراه، ومن ذلك كان حفل التأبين الذى ألقى فيه عميد الأدب العربى طه حسين كلمة كانت بمثابة دراسة موجزة ألقت الضوء على أفكار ورؤى وفلسفة الشاعر الكبير.
«الدستور» تنشر نص هذه الكلمة، التى تضمنها كتاب: «طه حسين.. وثائق مجهولة»، للكاتب الصحفى، إبراهيم عبدالعزيز، والذى يصدر قريبًا عن دار «بتانة»، ويضم محاضرات نادرة ومراسلات لعميد الأدب العربى.

كتب وصيته قبل 30 شهرًا من وفاته.. أهدى مكتبته لـ«كلية لاهور».. ووزع الملابس والأثاث على الفقراء
السيد وزير الثقافة
السيد سفير الباكستان
السادة الزملاء
السيدات والسادة
فى عام ١٩٣٥ كان الشاعر والزعيم الهندى «محمد إقبال»، مريضًا فى مدينة «لاهور»، محزونًا لوفاة زوجته فى نفس العام، يفكر فى الموت دون جزع، ويعد نفسه ضيفًا على هذه الدنيا لعدة أيام كما قال.
لذلك، كتب فى الثالث عشر من أكتوبر وصيته القصيرة، عدّد فيها ممتلكاته فهى كثير من الكتب وقليل من المتاع، فرّق الكتب بين ولده ومكتبة الكلية الإسلامية فى «لاهور»، ووزع الملابس والأثاث على المحتاجين والفقراء.
ثم بدا له فأضاف فى حاشية وصيته أنه يفضل نُبل الخلق فى زواج أولاده على الثروة والمنصب والجاه وعلى العلم أيضا، ومرت ثلاثون شهرا، خرج محمد إقبال بعدها من هذه الدنيا فى الحادى والعشرين من أبريل، أى فى مثل هذا اليوم من عام ١٩٣٨.
كانت تلك الممتلكات القليلة كل ما خلف إقبال، وتلك السطور القليلة كل ما وصى به.
ما الذى يشغل الدنيا ويدعو إلى أن تحتفل لاهور ومدن وعواصم كثيرة غيرها به كل عام؟
لقد خلف «إقبال»- عدا ما ذكره فى وصية الثالث عشر من أكتوبر عام ١٩٣٥- أدبًا فى لغات ثلاث هى الأردية والفارسية والإنجليزية، عالج فيه بالشعر وبالنثر موضوعات متفرقة، وشارك فى حركات الإصلاح السياسى والاجتماعى والدينى، وفى الحركة الوطنية الاستقلالية.
ولا يزال الباحثون والمختصون بما كتبه، على آثار «إقبال» فى هذه الموضوعات فى دراسات ليس هنا موضع المشارة فيها ولا حتى الإشارة إليها، لكنى أعيد النظر فى تاريخ حياة «إقبال» القصيرة العريضة، لأدرك مصدر امتياز هذا الرجل، الذى لم يملك- فى حياته- من مظاهر السلطان شيئا، والذى لم يزل يسيطر- منذ وفاته- على الملايين بسلطان خفى متجدد متزايد.
هذا سؤال من السذاجة أن نظن له جوابا واحدا.
لكننى وقد دعيت للتشرف بالحديث إليكم، عُدت إلى حياة «إقبال» فخيل إلىّ أنه يبين لى ولكم امتيازه، وأردت أن أتحدث إليكم فى هذا الجانب من جوانب حياته.
لقد كان إقبال من المؤمنين
لقد كان إقبال من الحالمين
وكان إقبال من العاملين
والمؤمنون الحالمون العاملون هم الذين يغيرون وجه التاريخ، هم الذين يضطرون الدنيا إلى التوقف أمام سيرتهم والاحتفال بهم كل عام، بل فى كل آن.
يقول «إقبال»- فى ترجمته العربية:
اليوم أُسمعك احتدام مشاعرى
وصراع إيمانى وصوت مُناى
المستحيل بدا بعينى ممكنا
سأُرى الخليقة ما رأت عيناى
لقد كان محمد إقبال يحلم بأن يرى الباكستان حقيقة، وهو لم يرها فى حياته، ولكن الخليقة رأتها بعد مماته، وكان يحلم أن يرى الإنسان وقد تجرد للخير والعدل والإخاء، وتمرد على الشر والظلم والعنصرية.
ولا بد مع الحالم من حالمين معه، ومع العامل من عاملين على هديه لندرك هذه الأهداف.
بالأحلام يمكن أن ينسحب المرء من العالم إلى عالم آخر من الخيال والاعتزال.
من المتصوفة من يكرهون الدنيا التى يرونها، فيزهدون فيها وينصرفون عنها كل الانصراف.
وفى أول حياة «إقبال» أحس القلق، ولم يدر كيف يتصرف فى عالم لم يرتضه.
قال:
أنا طالب النور
أنا قلق فى هذه المعمورة
أنا كالطفل الصغير فى ظلام الوجود الحالك
أنا مضطرب كالزئبق
وبالإيمان يمكن أن يهتدى الحيران.
ويقول كذلك:
إنما الكافر حيران له الآفاق تيه
وأرى المؤمن كونا تاهت الآفاق فيه
وبالعمل، وبالنضال المستمر والكفاح المتصل، بالصبر الذى لا يستريح، يأمل الحالم المؤمن أن يغير ما لا يرضى.
بالكفاح الشديد، والضرب السديد
ولا ترح فى الحرب عزف الوتر
فإن من لا يصطلى بالصراع والكفاح لا يدرى جلال السلام والحرية.
والآلام نفسها أجنحة إلى العلا نعلو بها فوق مطارات النسور، وهى شعلة تنير للأرواح السبيل.
هذه كلها أقوال «إقبال»، فبعد مرحلة من الحيرة كانت مرحلة تبيين الطريق.

سار على نهج الرومى فى «التصوف الإيجابى».. حلم بإنشاء باكستان.. وتنبأ بانتشار مبادئه بعد الرحيل
إن عدم الرضا عن الدنيا والتطلع إلى دنيا كاملة- دعا بعض الصوفية إلى كراهية الحياة واعتزالها كل الاعتزال، ولكن تصوف «إقبال» تصوف إيجابى فعال، إذا رأى الدنيا فلم تعجبه، فعليه أن يريد وأن يعمل على تغييرها إلى ما يرضيه.
وهنا سر امتياز محمد إقبال، سر احتفالنا به عامًا بعد عام.
إن محمد إقبال قد شارك فى حلم الحالمين بإنشاء «الباكستان»، وقد مات ولم يرها، وأتم العاملون عملهم فأُنشئت بعد وفاته بـ١٠ أعوام.
إن محمد إقبال دعا إلى مُثل عليا يسيطر فيها الخير على الشر، والعدل على الظلم، والمحبة على الكراهية والبغضاء، ورأى ذلك كله حقيقة لا بد أن تنبثق من الأرض كما تنبثق البذرة مهما حجبها الطين.
فما قَر فى ظلمة الترب حَب
جنون النشوء به والنماء.
وقد عمل لذلك طيلة حياته.
وسر امتياز «إقبال»، وسر احتفالنا بذكرى «إقبال»، هو أن طريق هذا العمل لا يزال يدعو كل ثائر على الشر، متمرد على الظلم يضطرم ضميره بجنون النشوء والنماء.
ما أعجب ما قال «إقبال»:
أنا فى بأس من الصخب القديم
مشعل طورى ليغشاه كليم
فهو ينتظر القائد الذى يقبس من ناره..
أنا لحن دون ضرب صعدا
أنا صوت شاعرى يأتى غدا
فهو يتنبأ بأن صوته الشاعرى سيأتى غدا، أى سيردده غيره من الذين يقبلون دعوته ويرفعون صوته ويرددون نداءه.
امتياز «إقبال» إذن فيما أراه:
إيمان انتصر به على كل حيرة وشك. وحلم رأى به طريق الخير والارتقاء يكاد يلمسه ويكاد يريه الخليقة رأى العين.
وعمل جاد لا يمتد إلى طيلة الحياة الإنسانية فقط، بل يعلم صاحبه أنه سيحتاج إلى أعمار أخرى غير عمره حتى يتم.
السيد الوزير، السيد السفير، السادة الزملاء، السيدات والسادة.
مثل هذه الفكرة تحتاج إلى إيضاح وشرح، ومن الأمانة مثلًا أن نشير إلى أن هذا التصرف الإيجابى ليس مذهبًا أثر به «إقبال»، من الأمانة أن نشير إلى أن جلال الدين الرومى قد اتجه إليه وسار فيه.
من الأمانة أن نذكر أن «إقبال» نفسه يقول:
جسد الرومى طين جوهرا
من غبارى شاد كونا آخرا.
مثل هذه الخواطر تحتاج أيضا إلى التوقف عند أبعاد الحلم الذى حلم به «إقبال»، والذى يدعونا إلى أن نحققه ونعيشه.
ما أرى خلق «الباكستان» كان بمثابة غاياته، وإنما هى وسيلته إلى إيجاد البيئة الصالحة لخلق المؤمن الخيّر الصالح.
ما أرى خلق «الباكستان» كان آخر المراحل، بل كان أولها، ما كان يشغل بال «إقبال»، وما هو جدير أن يشغلنا هو المكتوب وليس الغلاف، ولكن هذه الخواطر تحتاج إلى وقت ليس متاحا لنا الآن.
وإنما أردت أن أُحيى هذا الحالم العظيم، وهذا المؤمن الصامد، والعامل والإمام فى طريق العاملين والمجاهدين.
هذا الذى خرج من الدنيا فى «لاهور» لا يملك شيئا، وهو اليوم يملك هذا المُلك العظيم، يملك أفئدتنا ومشاعرنا، ويملك فيما نرجو إخلاصنا للمُثل التى بشر بها، وطلب أن نعمل لها وبها مؤمنين مخلصين.