رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

القيم والأخلاق بين التحرر والالتزام


يتردد كثيرًا فى السنوات الأخيرة بين العرب الحديث عن الالتزام بالأخلاق والقيم، وتتعالى نبرة الشكوى من انهيار هذه المنظومة، وبالتالى التنبؤ بانهيار المجتمع فى مستقبله إذا لم يسارع بالعودة إلى ‏التمسك بهذه الأخلاق، والالتزام بها وتمثلها فى الحياة اليومية.‏
والحقيقة أن ما يطلق عليه منظومة الأخلاق والقيم يحيطه الكثير من الضبابية وعدم الوضوح، لأنه:‏
بداية ليس هناك تحديد لانتماء ومرجعية هذه القيم، هل هى القيم من المنظور الدينى، أم المنظور الفلسفى، أم المنظور العقلى، أم المنظور الشعبى؟ أم منظور الحداثة وما بعد الحداثة (التى لم ‏نتجاوزها بعد)؟، وإذا كان من المنظور الدينى، فأى تدين نعنى؟، وأى مذهبية داخل الدين الواحد يمكن اعتمادها؟، وذلك على الرغم من التشابه الظاهرى الخادع فى كل هذه المناظير وتحديدها لهذه ‏القيم والأخلاق.‏
وثانيًا لأن هناك خللًا فى تحديد كثير من مفاهيم هذه القيم وفى تحديد أبعادها، فما المقصود بقيمة الثقة وحسن النية والسلام والعدل مثلًا فى ظل تغير معطيات كثيرة من الحياة بشأنها، وبالتالى ‏ظهور قيم تكاد تكون مضادة لها؟، وما مفهومنا عن قيمة العمل، والأمانة، والإتقان، وغيرها مما يشير الواقع لازدواجية بين تبنيها شعارًا وبين تطبيقها فعلًا.‏
وثالثًا لأن العالم من حولنا لم يعد يتعامل بممارسات هذه القيم كما توارثناها نحن وكما يمكن لنا أن نطبقها قياسًا على ماضينا، فالعلاقات بين الأفراد والشعوب تشابكت وتعقدت وهيمنت عليها ‏مستجدات وتطورات جعلت العالم يعيد صياغة قيمه القديمة، ويضيف إليها قيمًا جديدة استحدثها، بعضها يعود للسوق (حركة الاقتصاد العالمى)، وبعضها يعود للهيمنة السياسية، وبعضها يعود ‏لمصلحة بلاده العامة، وغيرها مما جعل العالم يغير من قيم التعامل، وبخاصة مع عودة الرأسمالية الجديدة للسيطرة، وقدرة السياسة على استخدام نظريات العلم والفلسفة لصالح تمرير سياساتها ‏وتحقيق أهدافها ورعاية مصالح بلادها، مثل: التفكيكية، والعولمة، والمجتمع المفتوح، وغيرها مما يتم تصديره إلينا إعلاميًا وثقافيًا، مستخدمًا أسلحة جديدة منها الميديا والألعاب الإلكترونية، وغيره مما ‏لم نجهد أنفسنا نحن العرب لدراسة هل تسمح البلدان المصدرة لهذا بتداوله بين شعوبها أم لا؟.‏
هذه الأسباب مجتمعة جعلت جماعات غير قليلة من العرب يتحررون من قيم وأخلاقيات كثيرة، ويستعيرون قيمًا غير عربية بديلة، وهو ما يتضح عند دراسة بنية وتركيب المجتمعات العربية الآن ‏فى أنماط تعايشها وتعاملاتها، ليس فقط فى المدينة والمجتمع المتحضر، وإنما فى الأقاليم البعيدة والنائية وقليلة السكان، وكيف أن هذه المجتمعات تغيرت ملامحها، وتغيرت عاداتها وتقاليدها نتيجة ‏تغير كثير من القيم لديها، وتكفينا نظرة إلى القرى والأرياف والبوادى والنجوع والكفور لدراسة تحولات هذه القيم لديها.‏
وهذه الأسباب مجتمعة، أيضًا، هى التى أنتجت ممارسات سلبية فى المجتمع، منها اعتماد الحكم الأخلاقى بديلًا عن الحكم الموضوعى، وهو حكم ناتج عن تنصيب النفس مسئولًا مفوضًا من قبل ‏الإله عن إقرار ما يراه هو صوابًا، وبالتالى يدين الآخرين عندما يفعلون ما يتضاد مع قناعاته هو، فى حين يبرر لنفسه ذات الفعل، فى ازدواجية أخلاقية يعيشها معظم العرب تحت شعار أنه يتنافى ‏ومنظومة الأخلاق والقيم، دون تحديد أى أخلاق وقيم تلك التى نقصدها!.‏
لعلنا نحتاج لجرأة فى إعادة صياغة وتعريف منظومة الأخلاق والقيم التى نعيشها وهو أمر ليس صعبًا على المستوى التنظيرى، ولكنه لا يكفى بمفرده، فالمجتمعات تحتاج أولًا لإعادة تأهيل فكرى ‏وسياسى بما يجعلها على قناعة بأن التزامها بهذه القيم والأخلاق سيكون له المردود الإيجابى على واقع الحياة. ولنصحح أولًا وقبل كل ذلك أفهامنا حول ثبات الأخلاق والقيم، فالثابت فيها فقط هو ‏المسمى والفكرة، أما الممارسات والضوابط فإنها متغيرة بتغير الأزمان وتحتاج بالتالى لإعادة صياغة تبعًا لتطور الحياة من حولنا، وبخاصة فى الشرق العربى الذى أصبح يحيا بشعارات القيم دون ‏أن يمارسها فعليًا.‏