رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصراع بين العاطفية والعقلانية


أى سلوك أو تصرف يقوم به الإنسان يعود إلى واحد من اثنين، إما التفكير العقلى، وإما التفكير العاطفى، وهو الأمر الذى ناقشته دراسات علمية جادة عبر التاريخ، وتوصلت لمحددات وضوابط حاكمة لكل منهما، فالعقلانى منطقى موضوعى ناقد باحث عن الحقائق يعطل مشاعره فى معالجة الأمور ويحتكم للتفكير المتروى، أما العاطفى فهو يفكر دائمًا بطريقة شخصية (يتعامل مع القضايا والمشكلات بشكل شخصى) ويميل لتصنيف الأشياء تبعًا للحب والكره، ويغلب قلبه على عقله فى معالجة كل الأمور.

هذا الصراع بين العاطفى والعقلى، شغل الفكر الإنسانى منذ نشأة عصر العلم وحتى لحظتنا الراهنة، إذ لا يخلو إنسان من معايشة هذا الصراع فى كل لحظة من حياته، بل يمكن إحالة كل الجرائم البشرية الفردية والجماعية إلى هذا الصراع (جرائم الاعتداء على الآخرين والخلافات الشخصية والحروب والفتن.... إلخ). والقارئ المتأمل يلاحظ أن الشعوب العربية عاطفية بطبيعة تكوينها، تميل لتغليب العاطفة على العقل، تحب وتكره، وتحكم بالعقل الانفعالى وليس بالعقل المنطقى.
منذ قديم الزمان حلل أبوحامد الغزالى النفس البشرية العربية، مستخدمًا المنهج الاستنباطى، وقسمها إلى نظم يتبعها الأفراد، ورأى أنهم ينتمون إلى واحدة من الأنفس الثلاث: نفس عالمة، ونفس عاطفية، ونفس عاملة، واستطاع من خلال ذلك رصد مشكلات النفس العاطفية، وما ينبغى تجاهها من سبل تعليم، غير أن الوعى العربى لم ينتبه لهذه المحاولات الجادة والمبكرة، ولم يتم استثمارها فى تربية المجتمعات عبر وسائل التعليم المتداولة فى كل عصر (مؤسسات ودور العبادة، والمدارس، والمعاهد، والجامعات.. إلخ). وفى السنوات الأخيرة، ومع تطور وسائل التكنولوجيا وعصر الانفتاح المعلوماتى، (الذى تسهم فى صياغته معظم شعوب العالم ويغيب الحضور العربى عنه بالشكل الملائم)، مع هذه التحولات تزايدت العناية بالتقارير العالمية التى ترصد للتشابه والفوارق بين الشعوب، وتعرضت هذه التقارير لكل المحاور الأساسية المعبرة عن شعوب العالم والدالة عليها، مثل أوضاع التعليم والصحة ومعدلات التنمية والاقتصاد والمشاركة السياسية والحريات والعاطفية والعقلانية، وغيرها مما يسهم فى صياغة الوجود المستقبلى لهذه الشعوب.

وكان من بين هذه التقارير، تقرير وكالة جالوب العالمية (Gallup 2016)، الذى سعى لتصنيف شعوب العالم من حيث الأكثر عاطفية، ومثلت عينة الدراسة ١٤٨ دولة تم فيها قياس المشاعر الإيجابية والسلبية التى يُظهرها عموم الشعب يوميًا من خلال أسئلة واستبيانات كانت تقدم لهم، وكشف التقرير عن عاطفية الشعوب العربية مع شعوب أخرى مثل: بوليفيا والسلفادور والإكوادور والفلبين ونيكاراجوا وجواتيمالا، واحتلت العراق المرتبة الأولى عربيًا، وتلتها بقية الشعوب العربية.

هذه العاطفية فى عمومها كان يمكن لها ألا تكون عيبًا، كما تطور الأمر بين الشعوب العربية الآن حين تم تغييب العقل العلمى والتعقل والقدرة على استيعاب الأمور والتخلى عن الشفاهية، التى لا ترتكز على مرجعيات ومصادر وأصول فى مناقشة القضايا وتداولها. هذه العاطفية كان يمكن أن يتم استثمارها لصالح تطوير الشعوب وقيادتها نحو الاتفاق على منطلقات، كما تكشف المراحل التاريخية التى تم فيها ذلك، وبخاصة وقت الأزمات، مثل اتفاق الشعب المصرى واصطفافه خلف عمر مكرم، ثم سعد زغلول، ثم جمال عبدالناصر، ثم ثورة الخامس والعشرين من يناير ٢٠١١م والثلاثين من يونيو، وغيرها. فهذه الأحداث ومثيلاتها كانت العاطفية هى التى تقود الشعوب وليس شيئًا آخر، لكننا لم نتعلم الدرس فى استثمار هذه المشاعر العاطفية عبر برامج إصلاحية لنهضة الشعوب، وتركنا ذلك للتيارات الدينية المتشددة تارة، أو للفنون الهابطة والمتردية تارة أخرى، أو للتيارات الخارجية المستهدفة لهوية الشعوب العربية تارة ثالثة. وهناك دراسات علمية جادة قامت بها مؤسسات كبرى فى العالم لبحث كيفية استثمار العقل العاطفى (الذكاء العاطفى) فى بناء الإنسان والشعوب والدول، منها دراسة جامعة هارفارد (دانيال جولمان Emotional Intelligence 1995)، التى توصلت لأهمية الذكاء العاطفى فى تحقيق النجاح فى الحياة إذا تم استثماره والتعامل معه بعلمية، ووضعت مؤشرات يمكن تعليمها وتعلمها لكيفية الاستخدام الذكى للعواطف وإدارة مجريات حياتنا الخاصة والعامة، من خلال المزج المعتدل بين العقل والعاطفة وليس تغليب أحدهما على الآخر.

كما توصلت دراسات عديدة إلى أن الشخص العاطفى يبحث عن مبرر نفسى أو قلبى يستريح إليه فى مواجهته القضايا التى يتعرض لها، فى حين يبحث العقلانى عن الأسباب الكامنة وراء الأشياء، ويتشكك فيها ولا يقبلها إلا بعد بحث وتدقيق وتمحيص وإحالة إلى العلم والمنطق والفكر وتجارب الآخرين وخبراتهم، وبالتالى لا يردد الشائعات بمجرد سماعه لها، ولا يتخذ القرار الانفعالى بمجرد استثارة دوافعه العاطفية (غضب، فرح، خوف، حب، كره، حزن، حسد... إلخ)، مما يكون له التأثير السلبى عليه وعلى من حوله. ولعل قراءة سريعة للذين يغلبون العاطفة على العقل ستكشف لنا عن سهولة التأثير عليهم واستقطابهم، كما حدث ويحدث مع الجماعات الدينية المتشددة والجماعات الإرهابية وغيرها مما يعانى منه الوطن العربى الآن، دون أن نبحث عن الأسباب الحقيقية وراءها، لأننا لم نعد نثق فى العلم على الرغم من أنه يقود مسيرة ومسار البشرية الآن.
هل نحن بالفعل لا ندرك أن هذه العاطفية عندما تقترن بغياب أو تغييب العقل، وتردى مستويات التعليم، وتأخر دور ومكانة الثقافة والتثقيف، كل هذا يؤدى إلى هذا التأخر الذى نعيشه ونعانى منه الآن؟.