رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

جمال حمدان.. الموسوعي الذي أنقذ الشرقية من «فم إسرائيل»

جمال حمدان
جمال حمدان

تحل اليوم ذكرى وفاة عبقري الجغرافيا السياسية وأحد ألمع وأهم المفكرين الاستراتيجيين في تاريخ الثقافة العربية وهو الراحل جمال حمدان، الذي توفي في مثل هذا اليوم 17 أبريل لعام 1993 بعد حوالي 66 سنة قضى معظمها راهبًا في محراب العلم، إنه العالم الموسوعي الذي عاش متوحدًا في منزله زاهدًا حتى في المناصب الأكاديمية بعد أن قدم استقالته من الجامعة قانعًا مختارًا.

يرى الكثيرون أن جمال حمدان اغتيل بعد أن صرح بنواياه في إعادة طبع كتابه الذي فضح فيه اليهود المعاصرين وفنَّدَ به علميًا أسطورة ملكيتهم لأرض فلسطين باعتبارهم سلالة إبراهيم الذي منحه الله وعدًا إلهيًا بأن يعطي الأرض لنسله، والأرض المذكورة في التوراة هي المساحة الممتدة من غرب نهر الفرات حتى شرق نهر النيل وعلى ذلك يزعم اليهود المعاصرون أن دولتهم يجب أن تشمل فلسطين وسوريا والأردن ولبنان وأجزاء من المملكة العربية السعودية إضافة إلى شبه جزيرة سيناء ومحافظة الشرقية من بلدنا مصر.

ورغم أن ما كتبه حمدان قد نال بعد وفاته جزءًا من الاهتمام الذي يستحقه لكن المهتمين بفكره صبوا مجهوداتهم على شرح وتوضيح عبقريته الجغرافية فحسب متجاهلين قدرته على التفكير الاستراتيجي حيث لم تكن الجغرافيا لديه سوى رؤية استراتيجية متكاملة للمقومات الكلية لكل تكوين بشري وحضاري ورؤية للتكوينات وما فيها من عوامل الضعف والقوة ثم إنه لم يتوقف عند تحليل الظواهر الجزئية أو الأحداث الآنية وإنما سعى إلى وضعها في سياق أشمل وذو بعد مستقبلي كذلك وعلى هذا عانى حمدان شأن كثير من العباقرة من عدم قدرة المجتمع المحيط على استيعاب إنتاجه العلمي إذ أن رؤاه كانت غالبًا سابقة لعصرها بسنوات وكان الزمن وحده الكفيل بتصديق نبوءاته وإثبات ألمعيته.

فقد تنبأ حمدان مثلًا بانهيار الكتلة الشرقية وكان ذلك عام 1968 وهو ما حدث بعدها بواحد وعشرين سنة وتحديدًا عام 1989 حيث انهارت الكتلة الشرقية وانفصلت دولها الأوروبية عن الاتحاد السوفيتي ثم سقط الاتحاد السوفيتي نفسه عام 1991 رغم أن حمدان كتب ما كتبه في أوج مجد الشيوعية وتدفق الزحف الأحمر.

فضح الدجل الصهيوني

كان حمدان صاحب السبق في اكتشاف أن اليهود الحاليين ليسو هم يهود التوراة وليسو من أسباط بني إسرائيل الاثنى عشر وبالتالي يصبح إدعائهم للأحقية في أرض فلسطين حسب نصوص العهد القديم مجرد أكذوبة ذلك أن اليهود الحاليين ينتمون في معظمهم إلى قبائل الخزر التترية التي كانت تعيش في المنطقة ما بين بحر قزوين والبحر الأسود وهم جنس ليست له علاقة بالعبرانيين القدامى وكانوا قد اعتنقوا اليهودية في القرن الميلادي الثامن وهذا ما أكده بعد ذلك بعشر سنوات (آرثر كوستلر) في كتابه القبيلة الثالثة عشرة.

كان حمدان سباقًا في هدم المقولات الأنثروبولوجية التي تعد أهم أسس المشروع الصهيوني وذلك في كتابه الصادر سنة 1967 بعنوان "اليهود أنثروبولوجيًا"، وفيه أثبت علميًا أن إسرائيل - كدولة - ظاهرة استعمارية بحتة، قامت على اغتصاب غزاة أجانب لأرض لا علاقة لهم بها دينيًا أو تاريخيًا، مشيرا إلى أن هناك "يهودين" في التاريخ، قدامى ومحدثين، ليست بينهما أية صلة أنثروبولوجية، ذلك أن يهود "فلسطين التوراة " تعرضوا بعد الخروج لظاهرتين أساسيتين طوال 20 قرنًا من الشتات في المهجر، وهما خروج أعداد ضخمة منهم بالتحول إلى غير اليهودية، ودخول أفواج لا تقل ضخامة في اليهودية من كل أجناس المهجر، وأقترن هذا بتزاوج واختلاط دموي بعيد المدى، انتهى بالجسم الأساسي من اليهود المحدثين إلى أن يكونوا شيئًا مختلفًا كلية عن اليهود القدامى.

وفي وقتٍ كان فيه الصهاينة يروجون لأنفسهم باعتبارهم أصحاب مشروع حضاري ديمقراطي وسط محيط عربي وإسلامي متخلف، فإن حمدان لم ينخدع بهذه القشرة الديمقراطية المضللة، كما أنه لم يستسلم أبدًا للأصوات العربية الزاعقة التي لا تجيد سوى الصراخ والعويل، واستطاع من خلال أدواته البحثية المحكمة أن يفضح حقيقة إسرائيل، مؤكدا "أن اليهودية ليست ولا يمكن أن تكون قومية بأي مفهوم سياسي سليم كما يعرف كل عالم في السياسة، ورغم أن اليهود ليسوا عنصرًا جنسيًا في أي معنى، بل "متحف أجناس متحرك" ؛فإن فرضهم لأنفسهم كأمة مزعومة مدعاة في دولة مصطنعةٍ مقتطعة يجعل منهم ومن الصهيونية حركة عنصرية بالأساس".

وعلى الرغم من أن البعض استغرب من مطالبات أرييل شارون للعرب باعترافهم بـ "إسرائيل كدولة يهودية "، وهو الأمر الذي روج له الرئيس الأمريكي جورج بوش الابن في قمة العقبة، فان جمال حمدان كان قد كشف كشف قبل نحو ثلث القرن تلك الحقيقة الطائفية الصرفة للكيان الصهيوني، ووصف في كتابه " استراتيجية الاستعمار والتحرير " إسرائيل بأنها " دولة دينية تمامًا، تقوم على تجميع اليهود، واليهود فقط، في جيتو سياسي واحد، ومن ثم فأساسها التعصب الديني ابتداءً، وهي بذلك تمثل شذوذًا رجعيًا في الفلسفة السياسية للقرن العشرين، وتعيد إلى الحياة حفريات العصور الوسطى بل والقديمة".