رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصراع بين المادي والمعنوي «الفيزيقي والميتافيزيقي»


الفيزيقى هو عالم المادة الملموس والمشهود أمامنا، والميتافيزيقى هو عالم ما وراء الطبيعة بما يشمله من غيبيات وقوى مطلقة غير مرئية، وقد شكل البحث فى الميتافيزيقا قسمًا كبيرًا من الفلسفة فى اهتمامها بالتفكير فى علة الموجودات، والأسباب التى أدت لوجود هذا العالم المادى بكل عناصره وأبعاده وتفاصيله.
وتنقسم الأديان فى العالم أجمع إلى سماوية وأرضية ولا ثالث بينهما، فالأديان السماوية هى الإسلام والمسيحية واليهودية، لأنها ارتبطت بالإله الذى فى السماء وبالتالى بالميتافيزيقى، أما الأديان الأرضية فهى التى ارتبطت بالطبيعة والعناصر المحيطة (المادية الفيزيقية)، مثل الكونفوشيوسية والزرادشتية والمانوية وغيرها.
ويشترك أبناء العربية جميعًا فى انتسابهم لإحدى الديانات الثلاث التى تنتمى إلى السماوى الروحى الميتافيزيقى، والذى يفسر كل ظواهر الكون بإحالتها إلى الغيبى وما وراء الطبيعى، وإلى هذا الغيبى يمكن رد كل الأفعال والظواهر فى الحياة (إرادة الإله وقدرته)، ورد سلوكيات وسيكولوجية البشر (لأنه خالقهم وقلوبهم معلقة بيده)، ورد الظواهر الطبيعية الفيزيائية (رضا وغضب الإله، كما تراها جماعات غير قليلة فى كل الديانات العربية)، بل يرد البعض نجاحات وإخفاقات الإنسان إلى رغبة الإله، فحادث سقوط شخص رغم أنه ناتج عن خطئه، إلا أنه قضاء وقدر وكان لا بد أن يحدث، والنجاة من الحادث هى تدخل لقدرة الإله، وهكذا مما يدخل فى إطار معتقدات وتصورات العربى.
وبعيدًا عن التدخل فى مفاهيم الإيمان والكفر والانتصار لعقيدة دون أخرى، فإن ما نعنيه هنا فقط هو مناقشة علاقة العقل العربى بالإيمان بالغيبى والميتافيزيقى ورد كل شىء يقع من حولنا إليه.
هذا التصور للإيمان بالغيبى والميتافيزيقى له جانبه الإيجابى فى الحياة، إذ يعمل على توليد القوة فى النفس البشرية وشحذها للعمل مدفوعة بالإيمان بأن ما تفعله رسالة إلهية، مهما كانت بساطة هذا العمل، حتى ولو كانت صناعة كوب من العصير، أو إعداد وجبة للغذاء، ذلك أن الله يحب إذا عمل أحدكم عملًا أن يتقنه.
هذا التصور الإيجابى تم استثماره فى مراحل متقطعة من تاريخ الفكر العربى، مثل العصر العباسى، والفاطمى، لكنه لم يستمر ولم يتم استثماره فيما بعد ليكون فعلًا متواصلًا من جهة، وعامًا يشمل الغالبية العظمى من سواد أبناء الأمة من جهة ثانية، مما جعله ينحرف عن مساره من كونه إيمانًا يؤدى للقوة، إلى كونه تواكلًا يؤدى للضعف.
غير أن العرب لا يعترفون بذلك، بداية، لأن المفاهيم إجمالا لم تعد محددة منضبطة، وبالتالى اختلط كثير من المفاهيم وتداخل التواكل مع التوكل مثلًا، وثانيًا لأن نظرية الحكم كان يعنيها أشياء أخرى غير بناء مجتمعاتها، إلا مع قليل من الحكام الذين سعوا لذلك وحققت جهودهم نتاجات نسبية على أرض الواقع، وهو ما أنتج فى عصرنا شرائح المثقفين والعلماء والمفكرين، وثالثًا لأن صدمة الاستعمار الحضارية أدت لخلخلة كثير من المفاهيم العربية وعملت على تشويشها ومنها التوكل والتواكل، وثالثًا لأن التعليم لم يعمل على هذا المكون لتعديل مساراته، ورابعًا لأن القائمين على الديانات انشغلوا بالصراعات الطائفية والانتصار لعقيدتهم دون اهتمام ببناء الوعى السليم المعتدل، كما أمرهم الله عز وجل، وهذا جميعه أدى إلى الخلط بين الفيزيقى والميتافيزيقى، الخلط بين ما يجب أن يتركه الإنسان العربى ويحيله للإله يتحكم فيه، وبين ما يجب أن يقوم به هو، لأن الإله تركه لحرية الفرد التى سيحاسبه عليها.
هذه الإشكالية لن تحل فى الثقافة العربية، لأن التفكير فيها من أساسه يؤدى للخلط بين الإيمان والكفر كما تفهم هذه العقلية، وبالتالى سيظل العربى مشحونًا بالخوف من الاقتراب لهذه المنطقة خشية من الكفر على نفسه، أو خوفًا من تكفير الآخرين له وحكمهم عليه من أقرب الطرق لا محالة، ذلك أن وعيهم لن يقدر على استقبال أى تأويل أو تغيير لما نشأوا عليه أو تعديل مسار له، رغم كل المناقشات الكثيرة لهذه القضية فى الفلسفة الإسلامية وفى عصور مختلفة (الجبر والاختيار فى العصر العباسى مثلا)، حتى تم منعها هى وقضايا أخرى (وأد الفلسفة العربية فى القرن الثانى عشر الميلادى وإلى الأبد).
تم تحريم مثل هذه القضايا وقد كانت الفلسفة على وشك وضع لبنة الأساس فى الفكر العربى والشخصية العربية، ومع السكوت عاد المجتمع إلى تصوراته التى لا هو يناقشها علانية، ولا آليات الثقافة والتعليم تناقشها، وشيئًا فشيئًا عاش العرب غيابًا عن أم العلوم (الفلسفة)، وحدث ما حدث من تأخر وتراجع وانحراف عن المسار الذى كانت ملامحه قد بدأت فى الصعود لولا حدوث مثل هذه الانحرافات.
ما الذى يجب علينا التفكير فيه الآن؟، وكيف يمكن إعادة تأسيس العقل العربى ليتمكن من التفريق بين ما يحيله إلى الله وما يحيله إلى نفسه؟، وكيف يمكن التوفيق بين منظورين يتحيز أصحاب كل منهما لقناعاته دون أدنى استعداد لقبول الآخر، وهما المنظور الدينى والمنظور الدنيوى، أو بمعنى أدق المنظور الغيبى والمنظور المادى الواقعى؟.
لن تستطيع المؤسسات الدينية بمفردها القيام بهذا الدور، كما لن تستطيع المؤسسات الأخرى التى تنطلق من مناظير فكرية وسياسية واجتماعية وفنية، ولن تحتمل الحياة أيضًا تلك القطيعة بين الفريقين.
آن الأوان لوضع مثل هذه القضايا فى الاعتبار وتبنيها من قبل الدول ومؤسساتها الثقافية والتعليمية والدينية، وهى أمور يمكن وضع حلول إجرائية لها فقط لو كانت هناك عودة للعلم والحلول العلمية، والمنجز العلمى الذى أنتجه علماء عرب أجهدوا أنفسهم فى ذلك عبر التاريخ، أمثال الغزالى والفارابى وابن رشد والأفغانى وعلى عبدالرازق وعبدالمتعال الصعيدى، وغيرهم كثير ممن لا يعرف مشروعاتهم سوى القليل من أبناء العربية.