رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هنا يرقد أحمد شاه مسعود.. زيارة خاصة إلى أطلال «غريم طالبان» و«قاهر السوفيت»

صوره ارشيفيه
صوره ارشيفيه

وسط الجبال التى تكسوها الثلوج جلست لمدة ساعتين فى ولاية «بانشير»، التى أصبحت مستقلة فى ٢٠٠٤، وتعد مسقط رأس الزعيم الروحى للأفغان «أحمد شاه مسعود»، الذى يلقبه الإعلام الغربى بـ«أسد البانشير».
«مسعود» خاض معارك عديدة ضد حركة «طالبان» وتنظيم «القاعدة»، وكان الوحيد بين كل قادة «المجاهدين» الذى يقود جيشًا نظاميًا، ويمتلك استراتيجية واضحة، ما جعله إحدى الأوراق القوية للغرب فى مواجهة السوفيت.
ولأن سمعة الرجل وصوره تقابلك أينما حللت فى أفغانستان، قررت أن أزور بلدته «بانشير»، ومقبرته، لتكون خير ختام لرحلتى فى «بلاد الأقدار».

مواقع اختبائه من الروس مزارات سياحية.. وشقيق زوجته: أخفوا مقتله أسبوعًا لتحفيز المجاهدين

مع الوصول للولاية، التى رافقنى إليها «طارق محمدى» شقيق زوجة الراحل «شاه مسعود»، تقابلك إجراءات أمنية مكثفة للغاية، خاصة أنها البلدة الوحيدة التى لم تدخلها عناصر «طالبان»، وكانت مقبرة للغزاة، وأحد المقار الرئيسية لـ«الجهاد ضد السوفيت».
وخلال جولة فى الولاية، شاهدنا العديد من مظاهر التراث الأفغانى التى تزين الشوارع المختلفة، وسط انتشار لصور «شاه مسعود» فى كل مكان، من واجهات المبانى حتى السيارات، رغم مقتله قبل نحو ١٧ عامًا، فى ٩ سبتمبر ٢٠٠١، أى قبل يومين فقط من تفجيرات الحادى عشر من سبتمبر.
ويعتقد أن أسامة بن لادن، زعيم تنظيم «القاعدة» المتحالف مع «طالبان» التى كانت تسيطر على الحكم آنذاك، أرسل عنصرين من التنظيم نجحا فى اغتيال «مسعود» ببلدة «خواجة بهاء الدين» التابعة لولاية «تخار الشمالية» قرب طاجيكستان، بعد أن تظاهرا بأنهما صحفيان وحملا معهما كاميرا «ملغومة».
ورغم أن «مسعود» كان يتحدث الفارسية والفرنسية والعربية والروسية والإنجليزية والبشتونية والهندية، ولغات محلية أخرى، إلا أن ولايته تتحدث «البشتونية» فقط، وهى ولاية سياحية ريفية، تعطى جبالها منظرا خلابا يجذب المئات يوميا إليها، كما يكثر بها الفلاحون والمنتجات الزراعية وتربية الماشية.
صعدت أحد هذه الجبال، لأرى المواقع التى جرى فيها محاربة السوفيت، والاختباء منهم، التى لا تزال موجودة حتى الآن، بجانب بقايا من أسلحة السوفيت، يزورها الأهالى، لتكون البلدة بذلك شاهدة على ذكريات الحرب السوفيتية الأفغانية التى دارت خلال الثمانينيات، وكان أحد أبطالها «أحمد شاه مسعود».
وفى بلدته، «بانشير»، قررت أن أزور مقبرة الرجل، التى تعكس مدى الشعبية والحب اللذين تمتع به، إذ أصبحت مزارًا للأفغان والأجانب الذين يزورون البلاد، وهى عبارة عن ضريح ثمانى الشكل، فى مدخلها توجد بقايا أسلحة الحرب من دبابات ومدرعات وغيره.
المئات من مختلف الأعمار يزورون المقبرة خصيصًا لقراءة الفاتحة والصلاة بداخلها، فهى أشبه بزاوية للصلاة أو ضريح لأحد أولياء الله الصالحين، وتكسبها الجبال المحيطة بها جمالا وهيبة.
تحدث معى مرافقى عن الكيفية التى تلقوا بها خبر وفاة زعيمهم الروحى، فقال: «تلقيت فى البداية خبرًا عن إصابة أحمد شاه مسعود، فذهبت إلى المستشفى الموجود به، وطلبت من مرافقيه زيارته للاطمئنان عليه، لكنهم رفضوا قائلين إن هذا من أجل سلامته».
وأضاف: «مر أسبوع ونحن فى حالة يرثى لها.. كل العائلة، زوجته وأولاده، لذلك أصررنا على الذهاب إلى المستشفى، حيث فوجئنا بأنه متوفى منذ أسبوع فى ثلاجة الموتى، وأنهم أخفوا الخبر كى لا يتأثر الجهاديون بخبر موته، فيتركوا الجهاد ضد المتطرفين».
داخل المقبرة، أو إن شئت فلتقل «الضريح»، تحدثت مع بعض زوار المكان، فقال رجل فى الستين من عمره: «نأتى لزيارة ضريح شاه مسعود لأنه ضحى بحياته من أجل الوطن، فهو بطل حقيقى لم يأت مثله».
وقالت سيدة فى الأربعين، كانت تزور الضريح بصحبة أطفالها: «حريصون على زيارته فى الأعياد، ونحن الآن نحتفل بعيد النيروز، (وقت وجودى فى أفغانستان)، لذا جئنا لقراءة الفاتحة على روح الشهيد، والدعاء له بالمغفرة، ردًا لجميله، فهو أعطى لبلدنا الكثير».

مؤسسته الخيرية: خدمات تعليمية مجانية.. كتب ضد الإرهاب والتطرف.. وخطة للتواجد فى الدول العربية

إذا كان هذا هو الحال فى المقبرة، فإن «مؤسسة أحمد شاه مسعود الخيرية» لا تقل فى اجتذاب المئات إليها، والتى أسسها شقيق الزعيم الأفغانى ويدعى «ولى» فى ٢٠٠٣، وتعمل فى جميع المجالات الخيرية، وتقدم المساعدات والإعانات للمحتاجين والفقراء، حسب مرافقى «طارق محمدى».
وقال «محمدى»، الذى يعمل فى المؤسسة منذ عام: «المؤسسة تقدم العديد من الخدمات عبر فروع فى ١٤ ولاية أفغانية»، لافتًا إلى أنها لا تقتصر على الجانب الإنسانى فقط، بل لها دور تعليمى وثقافى، إذ «تنظم العديد من الكورسات فى المواد الدراسية المختلفة، مثل اللغتين العربية والإنجليزية والفيزياء وعلوم الحاسب، بجانب مدرسة تابعة لها فى العاصمة كابول باسم (راستجران)، يدرس ٩٠٪ من طلابها بالمجان».
وتجهز المؤسسة لترجمة عدد من الكتب العربية التى توضح حقيقة الإسلام المعتدل، بالتعاون المباشر مع الأزهر فى مصر، وفق «محمدى»، الذى شدد على أن الاعتدال هو منهج «شاه مسعود».
وأشار إلى أن المؤسسة تمتلك مكتبا فى واشنطن منذ عام، ويتم تجهيز آخر فى طاجيكستان حاليًا، مع خطة للانتشار فى الدول العربية بإنشاء مكاتب هناك، مضيفًا: «لدينا تابعون للمؤسسة فى لندن دون وجود مكتب رسمى، وفى العام الجديد من الممكن أن يسافر أحمد مسعود الابن لافتتاح مكتب لنا هناك».
ونفى وجود دعم خارجى من أى دولة للمؤسسة، رغم أن «مسعود» كان يدرس فى بريطانيا، مضيفا: «مع تعدد أنشطتنا الثقافية ونشرنا كتبا عن الجهاد والإرهاب والتربية والأطفال من الممكن أن يكون هناك توسع للمؤسسة فى الخارج».
وعن علاقة المؤسسة بـ«طالبان»، وإذا ما كانت تتعرض لأى تهديد منها، قال: «ليست لدينا مشكلات مع طالبان، ونحيى سنويًا ذكرى أحمد شاه مسعود، بالعديد من مراسم الاحتفال، ولا تتعرض لنا الحركة بأى سوء، رغم عداوتها معنا منذ التسعينيات».
وكشف «محمدى» تفاصيل الدعم المادى الذى تتلقاه المؤسسة، وقال: «رجال الأعمال الأفغانيون هم من يمولون المؤسسة، ويساعدونها فى تنفيذ أنشطتها المختلفة، وهو ما نطلب زيادته خلال العام الجارى، نظرًا لرغبتنا فى تنفيذ أنشطة جديدة، من بينها استحداث كروت العضوية».
وعن خدمات المؤسسة للسيدات، يقول: «نخدم النساء ونمنح بعضهن منحا تعليمية فى الداخل، وبعثات مماثلة فى الخارج، وتحديدًا روسيا وتركيا».

منزله شهد اجتماعات المقاومة.. وطبيبه خلال الحرب: أقمنا فى المغارات

خلال وجودى فى «بانشير»، زرت البيت الذى كان يعيش فيه «أحمد شاه مسعود»، وهو يقع بين مجموعة من الجبال، وتحيط به مناظر طبيعية خلابة، إذ تجرى المياه من تحته، وتكسوه الأشجار، وهو يضم ٣ منازل صغيرة، قال مرافقى إنها للشهيد ولوالده وشقيقه، وكان يشهد عقد اجتماعات «المجاهدين» بقيادة «مسعود».
ومن دواعى سرورى، أنى التقيت الدكتور «رحيم»، الطبيب الخاص بـ«أحمد شاه مسعود» أثناء مقاومة السوفيت، والمتخصص فى مجال الجراحة، الذى قال: «كنت المسئول عن الفريق الطبى فى مدينة بانشير، حيث جرت أكبر مقاومة للإطاحة بالسوفيت».
وأضاف: «عملت على علاج المصابين فى معظم نقاط المقاومة، بجانب المواطنين العاديين، وكنا نتلقى الدعم الطبى تهريبا من كابول، وأقمنا بالشهور داخل مغارات فى الجبال»، لافتًا إلى أن هذه الحرب شهدت استشهاد كثير من الأفغان.
وتابع: «الإصابات كانت مختلفة ما بين قطع فى القدم ونزيف داخلى، والعدد كان كبيرا، ومن الصعوبة جدًا وقتها علاج الجميع، لذا استشهد كثيرون، قدموا من بلدان عديدة مثل الجزائر وفلسطين ولبنان».
وبعد انتهاء جولتنا فى مقبرة ومنزل ومؤسسة «أحمد شاه مسعود»، نستعرض فى السطور التالية محطات فى حياته، لمن لا يعرفه من المصريين.
ذو أصول طاجيكية، واجه الاجتياح السوفيتى لأفغانستان، بدأ عضوًا فى «الجمعية الإسلامية» المحسوبة على جماعة الإخوان، التى أسسها عبدالرحيم نيازى فى ١٩٦٩، وضمت برهان الدين ربانى وقلب الدين حكمتيار.
بقى فى «الجمعية الإسلامية» لفترة، حتى أسس فيما بعد تنظيم مجلس شورى الولايات التسع «شوراى نزار» أو «مجلس شورى النظار»، الذى ضم أيضًا: «عبدالله عبدالله، ومحمد قسيم فهيم، ويونس قانونى»، بعد ذلك أسس «تحالف الشمال»، الذى ضم ائتلافًا من قوى متنافرة، ومن بين أعضائه: «عبدالرشيد دوستم، إسماعيل خان، وعبدرب الرسول سياف»، وكان يمثل التيار الإسلامى المعتدل. انتقل عام ١٩٧٥ إلى المقاومة المسلحة فى صفوف «الانتفاضة الإسلامية» ضد نظام «داوود خان»، التى تعمّقت خصوصًا بعد انقلاب الحزب الديمقراطى الشعبى الأفغانى «شيوعى» ضد نظام «خان» نفسه عام ١٩٧٨. دخل «مسعود» بعد ذلك مرحلة استمرت ١٠ سنوات من مقاومة التدخل السوفيتى فى أفغانستان، وشغل منصب قائد القوات العسكرية فى أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتى.
شغل «مسعود» منصب نائب الرئيس الأفغانى المخلوع «برهان الدين ربانى»، ووزيرًا للدفاع فى الحكومة السابقة، قبل أن تستولى «طالبان» على السلطة عام ١٩٩٦.
وبعد انهيار حكومة «ربانى» وصعود «طالبان» بزعامة «الملا عمر» وسيطرتها على «كابول»، تزعم مسعود «الجبهة الموحدة الإسلامية والوطنية لسلامة أفغانستان»، التى تشكلت عام ١٩٩٦، وتعرف اختصارًا بـ«تحالف الشمال».
وضمت هذه الجبهة تجمعًا لقوى محلية عسكرية دعمتها دول الجوار كإيران والهند بالإضافة لدعم دولى روسى وأمريكى لقتال «طالبان» وتنظيم «القاعدة» وإفشال مشروعهما فى بناء «إمارة أفغانستان الإسلامية»، وضم التحالف عددا من العرقيات والمذاهب الدينية المختلفة، مثل الطاجيك (سنة)، والهازارا (شيعة) والأوزبك (سنة)، إلا أن نسبة التواجد «البشتونى» داخل التحالف كانت محدودة للغاية. وكان من أبرز قادة «تحالف الشمال»، إلى جانب «مسعود»، قائد الأوزبك الجنرال عبدالرشيد دوستم، الذى كان له دور مهم وبارز وسط قادة التحالف. ودارت معارك قوية بين «تحالف الشمال»، وحركة «طالبان»، كان لـ «شاه مسعود» دور كبير فيها، ولم تستطع الحركة الدخول إلى مناطق نفوذه، ولعب التحالف دورًا كبيرًا فى مواجهة حركة «طالبان» وإسقاط «كابول» بعد تدخل الولايات المتحدة فى ٢٠٠١.
أما «بانشير»، ولاية «مسعود»، فهى فی الأصل مقاطعة تابعة لولاية «بروان»، إلا أنها أصبحت محافظة مستقلة فی ١٣ أبريل ٢٠٠٤، سکانها حوالی ٣٢٨ ألفًا و٦٢٠ نسمة، ومساحتها ٣٦١٠ کم مربع، وعاصمتها مدينة «بازارك».
لا يعترف معظم الأفغان بإقليم «بانشير» أو «بنجشير»، ولا يزالون يعتبرونه جزءًا من ولاية «بروان» الشمالية، ويعد من أکثر المناطق شهرة وجمالًا، وشهد مقاومة شرسة من قبل المجاهدين الأفغان أثناء معرکتهم ضد الجيش السوفيتی السابق.