رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

ضربة عسكرية لمحو عار هزيمة سياسية


الكلام عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والمجتمع المدنى، شعارات تتردد كثيرًا على ألسنة زعماء الغرب وفى الندوات والمؤتمرات، وبيانات منظمات حقوق الإنسان، ولكن أى نظرة تأملية بسيطة لما يدور على المسرح السياسى الدولى، تؤكد أن العالم يدار وفقا لقوانين وقواعد شريعة الغاب، وأهمها أن البقاء للأقوى، وأن قوتك أهم من حجتك، وأن الأسد هو الذى يحكم رغم أن الفأر أو الثعلب ربما يكون أذكى منه بكثير.

عندما تقول مندوبة الولايات المتحدة فى مجلس الأمن فى جلسة علنية: «إننا لسنا بحاجة لموافقة مجلس الأمن لضرب سوريا»، فإنها تؤكد أن شريعة الأقوى هى التى تفرض نفسها على شريعة القانون الدولى ومبادئ العدالة، وغيرها من الشعارات التى يطنطنون بها كثيرًا عندما يرغبون، ويهملونها تمامًا إذا تعارضت مع مصالحهم.

وعندما تعرف أنه فى بريطانيا «أم الديمقراطية»، تستطيع رئيسة الوزراء أن تتخذ قرارا بتوجيه ضربة إلى سوريا أو أى بلد فى العالم، دون الرجوع إلى مجلس العموم، فعليك أن تتساءل: وما جدوى الديمقراطية إذن إذا كان ممثلو الشعب مغيبين عن اتخاذ القرار بشن حرب عدوانية ظالمة، ربما تكبد البلاد خسائر مادية أو حتى معنوية؟، ولكنك ستجد من يجيبك قائلًا: وما الضير فى أن تشارك «تيريزا ماى» فى شن هجوم ظالم، يقتل فيه آلاف من أبناء الشعب السورى، وتهدم مدنهم وممتلكاتهم، وهى تعرف أنه يمكنها أن تقدم اعتذارها عما حدث أمام لجنة تحقيق لمجلس العموم، تمامًا كما فعل رئيس الوزراء الأسبق تونى بلير، عندما اعتذر بكل بساطة عن غزو العراق قائلًا: إن المعلومات الاستخباراتية وقت الغزو ثبت خطؤها، وما حدث بعد الغزو بدا أنه أكثر تعقيدًا مما كنا نتصور؟!. إن هذه الأمة (أى العراق) التى أردنا أن نحرر أبناءها من أشرار صدام حسين، تحولت إلى ضحية للانقسامات الطائفية، وبسبب كل هذا فأنا أعبر عن حزنى وأسفى واعتذارى إلى حد قد لا تصدقونه.
الفرق بين حيوانات الغابة التى تفرض إرادتها بالقوة، وزعماء العالم الحاليين «أسود العالم ونموره وذئابه» الذين يتعطرون ويرتدون ملابس أنيقة، أن الحيوانات صادقة وتحارب من أجل البقاء، أما زعماء الدول الكبرى فهم كاذبون، ويحاربون ليزدادوا ثراء وانتفاخًا بالثروات، حتى لو سحقوا وسفكوا دماء الدول الأضعف التى يعاملونها على أنها حيوانات، لا تستحق شرف البقاء فى هذا الوجود.
حيوانات المسرح السياسى الدولى تكذب بلا خجل، من أجل أن تسرق خيرات الآخرين، ومن أجل أن تسخر أبناءهم لصالحها، وهى تقتل وتسحق الأضعف دون أن تذرف دمعة واحدة على ضحاياها.
ودعونى أقتبس من كلمة بشار الجعفرى، مندوب سوريا فى مجلس الأمن، عندما قال: إن أكاذيب الدول الكبرى اليوم، أصبحت أهم أسلحة الدمار الشامل، هذه الأكاذيب التى سرقوا بها فلسطين وغزوا بها فيتنام وقسموا كوريا ومزقوا يوغوسلافيا، كما غزوا العراق وحطموا ليبيا.
الكل يعرف أن هناك ثلاث دول كبرى فى العالم العربى يجب تحطيمها وكسر جيوشها، حتى يتم الاستيلاء على المنطقة بالكامل، ويتحقق الشعار المكتوب على واجهة الكنيست الإسرائيلى وهى «إسرائيل من النيل إلى الفرات»، وقد كانت البداية بالعراق وجيشها العظيم، والآن تجرى محاولات سحق سوريا وجيشها منذ سبع سنوات، وهى محاولات تستخدم فيها كل أساليب الكذب والخداع من تأسيس تنظيم داعش وإدارته بواسطة المخابرات الأمريكية والبريطانية، وانتهاء بأكاذيب الهجوم الكيميائى على خان شيخون ثم على دوما.. والكل يعلم علم اليقين أنهم إذا انتهوا من سوريا فإن الخطوة التالية ستكون بمحاولة تحطيم مصر التى يعتبرونها «الجائزة الكبرى».
نجاح هذا السيناريو الأسود - وهو ما لن يحدث - يعنى أن يساق من تبقى على الخارطة العربية كالقطعان، ولهذا فإننى أستغرب هذا الحماس الشديد الذى يبديه بعض العرب للمشاركة فى الهجوم على سوريا، سواء بالتمويل أو بنشر الأكاذيب أو حتى بالتأييد الشديد، واختصار المأساة السورية فى شخص الرئيس بشار الأسد، وكأن رحيله هو «الهدف السامى» الذى يدفع بعض العرب المليارات من أجله.. مع أن رحيل شخص لا يمكن أن يكون مبررًا لغزو أو لتحطيم دولة.. فهل حقق سقوط صدام حسين أى خير لبلده؟!، ولماذا لم نتعلم بعد كل ما حدث أن الهدف كان تحطيم العراق؟!.
الشىء المؤكد أن الأكاذيب قد تصنع انتصارات، لكنها لا تصنع أمجادًا، ولا تضمن استمرار قيادة هذا العالم إلى الأبد، فأكاذيب بريطانيا العظمى لم تحل دون غروب شمس إمبراطوريتها، وأكاذيب واشنطن لن تحول دون استمرار التراجع الواضح فى زعامتها للعالم، وكما كتب فشل العدوان الثلاثى على مصر فى عام ١٩٥٦، كلمة النهاية للإمبراطورية العجوز، فقد يكون فشل الولايات المتحدة فى تحقيق انتصار حقيقى فى الحرب المستمرة فى سوريا منذ سبع سنوات - وهى أطول من الفترة التى استغرقتها الحرب العالمية الثانية - هو البداية الحقيقية لتراجع نفوذها فى المنطقة، وقد تكون هزيمتها السياسية فى هذه الحرب هى بداية النهاية للأسد الأمريكى الذى بدت الشيخوخة عليه فى معاركه الأخيرة، من كوريا إلى سوريا.
يستطيع ترامب أن يوجه صواريخه هنا وهناك.. ويحطم هنا وهناك فى قواعد الجيش العربى السورى، لكن هل يمكنه أن يتجاهل حقيقة ساطعة كالشمس، وهى أن هذا الجيش قد هزم كل حلفاء أمريكا على الأرض السورية؟ حتى لو قيل إن هذا بدعم من روسيا وإيران.. المهم أن الهزيمة قد وقعت، وكان آخر فصولها فى الغوطة ودوما.