رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

عيوب العقلية العربية «5»

هيمنة الشفاهية والسماع على الكتابية والتوثيق


تأسس الوعى العربى منذ عصور ما قبل الإسلام على الشفاهية، ولم تعرف الثقافة العربية التدوين إلا فى القرن الثانى الهجرى (البعض يرى الأمر أقدم من ذلك)، وإلى يومنا هذا لم تزل كثير من المأثورات الشعبية العربية فى صورتها الشفاهية، ولم يتم تسجيلها رغم المحاولات العديدة لجهات معنية بتسجيل معظمها (الأمثال الشعبية، وأغانى الأفراح، وطقوس المناسبات الاجتماعية، وغيرها مما يمثل هوية الشعوب الحقيقية الممتدة عبر قرون والقادرة على الاستمرار والتعايش مع تطور الحياة المعاصرة).
هذه الشفاهية فى عمومها أنتجت نمط الثقافة السمعية الذى يحتكم إلى: قال، وقيل، وقالوا، وسمعنا، وبلغنا، وأخبرونا، وهى صيغ يكون المصدر الأصلى فيها مجهولا أو مجهلا فى الغالب الأعم، ناهيك عن التحريف الذى يلحقها عبر انتقالها من قائل لقائل للذى يليهما، مما ينتج النميمة، والقابلية لتصديق الشائعات وترديدها وتداولها، دون تحرى الحقيقة، رغم نهى الإسلام عن ذلك وتحريمه واعتباره من الحدود التى تستوجب الإقامة (حد القذف).
وقد لوحظ فى السنوات الأخيرة تسرب هذه العيوب وانتقالها من العامة والجماعات التى لم تنل حظا من التعليم أو الوعى، إلى الجماعات المثقفة والواعية وأصحاب الكلمة والنخبة، وبخاصة مع تعدد برامج «التوك شو» التليفزيونية ووسائط التواصل الاجتماعى من فيسبوك وتويتر وغيرهما، وتكفى مطالعة أى من هذه الوسائل للوقوف على شائعة حادثة مفتعلة وغير حقيقية مثلا، وسرعة تداولها، وانتقالها من الواقع الافتراضى عبر الفيسبوك وخلافه إلى الواقع الفعلى عبر شاشات التليفزيون والصحف والمجلات، إلى الدرجة التى تجعل وسائل الإعلام تناقشها على أنها إحدى قضايا الموسم، مع أن الأصل إشاعة قد تكون مغرضة، وقد يكون صانعها قد أطلقها على سبيل التسلية (وهو كثير مع عقول ظهرت فى السنوات الأخيرة تجد متعة فى ممارسة تفاهاتها عبر الإنترنت)، وقياسا على ذلك يمكن قراءة كثير من القضايا المتداولة بين عموم الشعوب العربية ونخبها المثقفة وصاحبة الوعى!.
إن الثقافة الشفاهية والسماعية هى المرحلة الأولى من مراحل التطور البشرى، لأنها تعتمد على الذاكرة، وقد تنبهت لذلك كل الدول التى سعت للتطور، فعملت على تجاوزها عندما تأكدت أن الذاكرة الإنسانية قصيرة المدى (ويمكن اختبار ذلك بأنفسنا فيما مر عليه عام واحد من أحداث حياتنا)، وأنها لا يمكن الاعتماد عليها فى البناء والتطور لأنها من جهة تخون وتخدع صاحبها كثيرا، ومن جهة ثانية تتحكم فيها الفردية والخرافة ووجهة النظر التى قد تضيق وتتسع تبعا لعوامل كثيرة قد يكون منها الهوى الشخصى والعاطفية، وهى حقائق لا تحتاج لتدليل، تناولها فرانسيس بيكون فى الحديث عن الأوهام الأربعة للإنسان، وتناولتها الفلسفة من بعده فى كثير من المواضع، ثم انتقلت دراسة العقل والذاكرة إلى علم النفس، ومؤخرا تختص علوم المخ بدراستها، حيث استطاعت تحديد مراكزها فى خريطة المخ البشرى، وتسعى الآن إلى التحكم فيها بيولوجيا وسيكولوجيا عبر أبحاث جادة ومستمرة (لم يكن للثقافة العربية نصيب للإسهام فى تطويرها أو إبداء الرأى فيها).
ولعله من المؤكد فى الدراسات والأبحاث أن الشائعات تكثر بين الشعوب التى تعتمد على الشفاهية والخطاب الشفوى، حيث يزخر معجمهم بمفردات مثل ما سبق (قالوا، ويقولون، وسمعنا) من الأفعال المبنية للمجهول، وبتطور هذه الظاهرة يترسخ بعد أعمق، وهو التقليل من شأن الخطاب العلمى لحساب الخطاب التافه المفرغ من المضمون، والبعد عن القضايا الجادة لصالح الموضوعات الساخنة الوقتية (الفرقعات الإعلامية)، وشيئا فشيئا يقع المثقفون أنفسهم فى الفخ، فيرددون الشائعات على أنها حقيقة، ولا يكلفون أنفسهم عناء التفكير العقلى أو الاستيثاق العلمى، وبالتالى تغيب المصداقية، ويقل شأن المثقفين والعلماء أنفسهم. وعلى أية حال، يبدو أن العقل العربى لا يستطيع تجاوز هذه المرحلة الأولى (الشفاهية) والانفصال عنها كلية، فهو يحن إليها مهما قطع أشواطا فى طريق العلم والعقل المنطقى، ويعتمد عليها فى كثير من مجريات حياته، ويكفى تطبيق استبيان بسيط من أدوات القياس العلمية فى هذا الصدد ليكشف عن علاقة الإنسان العربى بذلك يوميا، ويكفى أيضا تحليل نصوص المهاتفات اليومية بين أفراد الأسر، وبين الأصدقاء، وبين الناس عموما للوقوف على حجم سيادة هذه الثقافة، وأنها مادة التواصل الاجتماعى وإقامة الحوار، وإلا فلن تستمر المهاتفات لساعات طوال بين كثير منهم، وما ينتج عنه من عدم مصداقية وتناول للتافه والساذج أحيانا، ناهيك عما يمكن أن يفرزه من نميمة وإطلاق شائعات.
وعليه، فليس علاج هذه العيوب التى تنتج عن الشفاهية سوى فى العودة إلى تأسيس العقل العربى منذ الصغر على التعليم الذى لا يأخذ إلا عن التوثيق المحتكم إلى مرجعيات، إضافة لضرورة سن القوانين الرادعة لتجريم الشائعات وتداولها، وبخاصة فى وسائل الإعلام، إذ يلاحظ أن الوعى العربى المعاصر لم يجتهد للتفكير فى حل هذه الأزمة، ولم يولها العناية الكافية لإدراجها فى قوانينه، أو إعادة النظر فى تحديث فقه إقامة الحدود المتعلق بهذه الشفاهية، بما يتناسب والحياة المعاصرة.
ومن هنا فإن أى مثقف يستخدم مفردات مثل قيل، وسمعنا، وقالوا، ويقولون، وسمعت، وتناهى لسمعى... إلخ، عليه أن يراجع نفسه، قبل أن يراجعه التاريخ، وبخاصة أن واقعنا المعاصر يشهد حضور أصوات معاصرة لأجيال متعددة بدأت بمراجعة واقع الفكر العربى، وهى تمضى فى مسيرتها مستفيدة من الاستخدام الإيجابى لشبكة الإنترنت وإمكانات التواصل، وحرية المساحة التى لا تقدر عليها الرقابة مهما كانت محاولاتها، إذ بمنعها لتطبيق تكنولوجى فإن هناك عشرات التطبيقات التى تقوم بدور شبيه، أو تقوم باختراق التطبيق الذى منعته الرقابة، ومع وجود المثقفين من العرب الواعين للدور والواقع، فإن المستقبل لابد أن تكون ملامحه متغيرة، وليس هناك أمل آخر سوى فى هذا التوجه عربيا.