رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

الصراع بين العلمى والدينى «التدين الشكلى»


العربى متدين بفطرته، مقولة تستدعى الكثير من الجدل وإعادة النظر، وتقتضى أولا تعريف مفهوم التدين المقصود، لنتوصل إلى حقيقة واقع الأحكام:
- فهل هو التدين الناتج عن عموم الإسلام أو عموم المسيحية؟.
- أم التدين الناتج عن الانتماء لمذهب ما (سنى، شيعى فى الإسلام) أو (أرثوذكسى، بروتستانتى، كاثوليكى فى المسيحية)؟.
- أم التدين الناتج عن الانتماء لمذهب أيديولوجى (التدين السياسى كما شهده نصف القرن الأخير فى الوجود العربى)؟.
- أم التدين الشعبى الذى يمثل خليطا بين الديانات مجتمعة والأسطورى الشعبى الموروث والمتأصل فى الجماعات البشرية تبعًا للأقاليم الثقافية المختلفة؟.
إن الناظر إلى خريطة التدين العربية لا يحتاج إلى كثير من الجهد ليقف على حجم وكم التنوع فى مفاهيم التدين، وما ينتج عنه من تصورات ضيقة ونوعية تقتصر على أصحابها، ويتشيعون لها على نحو قد يتدرج فى تشدده من الشجار إلى التكفير إلى استباحة دم المخالف.
لقد مثلت العلاقة بين العلم والدين جدلا بدأ مع نشأة العلوم العربية منذ القرن الثانى الهجرى، وتزايدت حدته فى عصور ارتكبت فيها الجرائم فى حق العلم باسم الدين، ومنها ما حدث فى القرن الثانى عشر من الحجر على الفلسفة والبحث فيها، وما حدث فى مطلع القرن التاسع عشر من ظهور عصر العلم فى الغرب، والاتجاه نحو الثقة فى التجريب العلمى فى مقابل الإيمان الغيبى (إعدام المشتغلين بالعلم بتهمة الهرطقة)، وبالنسبة لنا نحن العرب هذه هى المرحلة التى كانت فى حاجة لسرعة الدراسة والتحليل والاستيعاب، للاستفادة منها، والبحث عن صيغ تطويرية لنظرة المجتمع العربى ومعتقداته حول العلم.
يضاف إلى ذلك أن تراثنا العلمى والدينى به كثير من المشكلات التى تدل على تخلفنا الفكرى، ويكفى عرض مثال واحد لما كان يجب أن تتم مراجعته فى تراثنا العربى، وهو ما أورده النويرى فى مقدمة كتابه «نهاية الأرب» عن الفضاء حيث يقول:
«فأما النيازك، فهو ما يرى من الذوائب المتصلة بالشهب والكواكب. وأما الصواعق، فهى قصفة من رعد ينقضُّ معها شقة من نار. وقالوا: إنها تنقدح من السحاب إذا اصطكت أجرامه، وهى نار لطيفة حديدة لا تمر بشىء إلا أتت عليه، إلا أنها مع حدتها سريعة الخمود، على أنها متى سقطت على نخلة أحرقت عاليها.
وأما الرعد، فمَلَكٌ مُوكل بالسحاب، والرعد يسمع من السحاب، كأن أجرام السحاب تضطرب وتنتفض إذا حدَتها الريح فتصوت عند ذلك.
وأما البرق فهو كما ذهب المفسرون: ضَرْب المَلَك الذى هو الرعد للسحاب بمخراق من حديد..... إلخ».
هذا النص ورد فى كتاب نهاية الأرب الصادر فى مشروع المختصرات التراثية عام ٢٠٠٦م، وكانت نتائج علوم الفيزياء المعاصرة بشأن السحب والبرق والرعد قد صارت آنذاك معلومات عامة، وكانت الفرصة سانحة لمشروع المختصرات أن يتم إلغاء هذه الجزئية تمامًا، لأنها لا تتناسب مع النتائج العلمية التى توصلت إليها العلوم، غير أن تقديس التراث يمنع المساس بالدينى حتى لو كان متناقضًا مع الحقائق التى أصبحت مستقرة.
هذا المثال يدلنا على طريقة تفكير العقلية العربية بشأن الدينى وما قاله الصحابة والتابعون وتابعو التابعين والأئمة التاليون، لأنها عقلية تتعامل مع التراثى بوصفه نصًا مقدسًا، وتعتقد أن المساس به هو مساس بجوهر الدين، والحقيقة أن ذلك ليس من الدين، لأنه مجرد تصورات بشرية ثبت عدم صحتها بالتجريب العلمى، وهى تدين شكلى وليس تدينًا جوهريًا.
وهذا المثال أيضًا هو قليل من كثير فى كتب التراث وليس فى نهاية الأرب فقط، وفى حقول معرفية متنوعة وليس فى الظواهر الفيزيائية فقط، فلماذا نصر على هذه الثقة فى موروثات تحتاج إلى تنقية؟.
إن عدم تنقيتها من متشابهات ما ذكرناه سيؤدى للفهم القاصر للدين، وسيؤدى بنا للتخلف العلمى والفكرى والدينى والسياسى والاجتماعى بلا أدنى شك، وتكفى مطالعة وتحليل وقراءة الوضع الراهن فى كل بلدان الوطن العربى، لتدلنا على موقعنا ومكانتنا بين شعوب العالم المتقدم.
أما إذا انتقلنا إلى الممارسات اليومية للفرد العربى فى علاقته بالتدين، فسنجد الازدواجية المطلقة بين التحدث عن الدين، والممارسة الفعلية، فعندما يتم التعرض للدين فى الحوار اليومى العادى، فإن الجميع يبدى مظاهر القداسة والتقديس، بل لا يكاد يخلو حديث يومى من استشهاد بنصوص الدين وأحاديثه وأحداثه وشخصياته، أيًا كان هذا الدين، ولكن عندما يدخل الأمر فى سياق ممارسة حياتية ومعاملات وتفاعل بين الأفراد، فإن الأمر يختلف، خاصة إذا تدخلت المصلحة الشخصية، على طريقة طرفة الاستفتاء عن حكم الحائط الذى بال عليه الكلب (قليل من الماء يكفيه).
حتمًا سيزعم الكثيرون أن هذا التصور ليس مندرجًا على كل المتدينين فى الإسلام أو المسيحية العربية، وإنما هؤلاء المشار إليهم هنا دينهم منقوص، ومنحرفون عن الطريق الصحيح للتدين... إلخ.
فماذا لو دعونا أصحاب هذا الزعم لتطبيق استبيان يتم تصميمه عبر أسئلة غير مباشرة لقياس التدين الشكلى والتدين الجوهرى؟
وماذا لو دعوناهم لتصميم مواقف فعلية وتطبيق أسلوب الملاحظة غير المباشرة لقياس التدين الشكلى وقضية الصراع بين العلمى والدينى فى عقل العربى (قياسًا إلى مجتمعات أخرى فى الشرق والغرب) ومراقبة ذلك فى واقع الحياة اليومية والتعاملات المباشرة؟..
كيف سيردون؟!!.