رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

هالة صلاح تكتب: وداعاً مستر هوكينج.. وتبّاً لنا.؟

هالة صلاح
هالة صلاح

فجأة أصبح العالم البريطاني المعجزة ستيفن هوكينج، حديث العالم بوفاته، العالم الغربي تحدث عن الرجل باعتباره عبقرياً يستحق الرثاء قياساً برحلته العقلية الخارقة في جسد معاقٍ تماماً، بينما غالبية عالمنا العربي، ربما لم يكن قد سمع به، أو قرأ له، ومع ذلك ترك كل إرثه العلمي وتحدث عن مصير لا يملكه سوى رب العباد.
وكعادتنا المخجلة، خرجنا عن كل معايير القياس الإنساني، وتورطنا بالحكم على مصيره بعد الموت، هل الجنة أم النار.؟ هل يجوز نعيه والترحم عليه.؟ أم الواجب لعنه باعتباره من "الكفار".؟ وكأننا تركنا كل مشاغل الحياة ومشاكلها واختراعاتها وتطورها، وحصرنا أنفسنا فقط في تحليل أو تحريم دخول الحمام بالقدم اليمنى أو اليسرى.؟
الأسطورة هوكينج الذي ولد فى الذكرى الـ٣٠٠ لرحيل الفلكى الإيطالى المعروف جاليليو، ومات فى الذكرى الـ١٣٩ لميلاد العالم الألمانى الشهير أينشتاين. كانت رحلة حياته مزيجا من الألم والتحدي وصناعة المستحيل لرجل أصيب بشلل كامل ومرض عضال منذ أن كان شابا حتى توفي مؤخراً وقد تجاوز السبعين.
عقل ستيفن هوكينج لا يقارن إلا بأدمغة صناع مسار العلم في مشروع الحداثة الغربي الكبير، خصوصاً نيوتن وآينشتاين فكانت أفكاره ونظرياته تحمل تحدياً لفسلفة الحداثة - وما بعدها - وعالجت تأملاته ثلاثية: "الكون والخالق والزمن" من خلال كتابين له: "موجز تاريخ الزمان" و"المخطط العظيم"، ليخرج علينا بـ"لا محدودية الكون"، وفسر الثقوب السوداء، كما أن مواقفه الأخلاقية من الحروب في العراق وفيتنام، وموقفه من الضحايا السوريين، ومن إسرائيل.. تضعنا أمام صيغة إنسانية أخرى لرجل هو بالتأكيد معجزة القرن العشرين العلمية.
بوفاة هذا الرجل ـ الذي يمكن الاختلاف معه عقائدياً لا محاسبته ـ وقعنا نحن العرب في فخ "الحساب الأخروي" الذي لا يملكه غير الخالق سبحانه وتعالى، وتحرك غالبيتنا في محاور ثلاثة، الأول: يشمت به دون حتى أن يقرأ له، الثاني: يجلده بسبب إلحاده ويتقمص دور "الرب" في التعذيب دون أن يعي حكمة ذات الرب في الرحمة والعفو والمغفرة، أما الثالث: لم يسمع به إطلاقاً.!

وللأسف، كانت كل الآراء عنه سطحية ولا ترقي الى مستوى النقاش العلمي أبدا، بنفس روح العصور الوسطى الأوروبية التي سبق لها تكفير روجر وكوبرنيكوس وجاليليو وداروين وكل العباقرة الذين قتلوهم بتهمة "الهرطقة" وحرقوا أجسادهم بالنار، ولكن كل ذلك لم يمنع من تخليدهم على مستوى التراث الإنساني وتوقير نظرياتهم فيما بعد.
هؤلاء "التافهين" أعطوا أنفسهم الحق في الحكم على مصير هوكينج، بأنه من أهل النار، ولم يستوعبوا رد الإسلام العظيم "وما أدري ما يفعل بي ولا بكم". أي أن الرسول نفسه -تبعا للقرآن- لا يدري ماذا سيفعل به شخصيا، فهل يدري هؤلاء المتنطعون ماذا سيفعل بهذا العالم ! هل يفيق هؤلاء الذين كسروا كل القواعد الأخلاقية والإنسانية، وهاجموه بأبشع الكلمات، ويستيقظون من سكرتهم!
شخصياً، ربما لا أعتبر هوكنيج "ملحداً" بالمفهوم السائد، لأنه في كتابه "موجز تاريخ الزمن" يحاول أن يجيب على الأسئلة التي ظلت محور استفهامات غامضة على مدار التاريخ، مثل من أين جاء الكون؟ وكيف بدأ؟ وما مصيره؟ والمهم أنه أوحى في هذا الكتاب بأن فكرة الإله الخالق لا تتعارض مع الفهم العلمي للكون، حيث قال "إذا اكتشفنا نظرية مكملة، تيسر لنا الانتصار النهائي العظيم للعقل البشري، إذ سيكون بوسعنا أن نحيط علما بعقل الخالق". أي أنه لم يعترض علي فكرة وجود خالق للكون .
ولكن كتابه الأخير "المشروع العظيم"، الذي كتبه بالاشتراك مع الفيزيائي الأمريكي لينارد ملوديناو، يقدم نظرية جديدة شاملة تفضي الى أن الإطار العلمي الكبير لا يترك حيزا لخالق للكون، وكوني مؤمنة وموقنة بوجود الله - أختلف - مع هذا العالم فيما ذكره في كتابه من أن "ثمة قانون مثل الجاذبية، صار بمقدور الكون أن يخلق نفسه من عدم، والخلق العفوي هو السبب في أن هناك شيئا بدلا من لا شيء" ثم أكمل: "عليه يمكن القول أن الكون لم يكن بحاجة الى اله يشعل فتيلا ما لخلقه". مع احترامي لعالم كبير مثل هوكنيج إلا أن كلامه هذا به تناقض كبير فهو ربط الخلق بسبب وجود قانون الجاذبية، ثم قال: والخلق العفوي "أي أنه بدون سبب" هو السبب في أن هناك شيئا بدلا من لاشيء! كيف في البداية ذكر أنه لابد من قانون من أجل أن ينشأ الخلق ثم عاد وتنكر هذا..! كما كان يجب عليه أن يقوم بتطبيقات عملية تثبت صحة نظريته، فلم يستطع مثلا أن ينتج كوناً بدون خالق .
لست مع أن ينشغل عالمنا العربي به بصفته ملحداً، وبجواز الترحم عليه من عدمه، فالعلماء "أنبياء العصر" اليوم، إذا ما أردنا استخدام صيغة تهكمية كالتي كان يفضلها هوكينج، والإنسان ما هو الا وجوداً فيزيولوجياً "بشر" مضافاً له كم معرفي "الروح"، وهذه الروح هي التي ميزته عن سائر المخلوقات، فكلما زاد الكم المعرفي زادت إنسانية الإنسان، والعكس صحيح، أري بقلبي أن الله عز وجل يوم القيامة سيتباهى أمام خلقه بكل عالم، كما يتباهى الأب بإنجازات ابنه، حتى لو لم يعترف هذا الابن بأبيه.
أخيراً.. رحل هذا العبقري، الأيقونة، رمز الأمل، قاهر اليأس، لقد اختفى من كوكبنا الأزرق، إذ غادره لاكتشاف الكون الذي كان يتوق لرؤيته.. رحل هوكنيج الذي قال "أنا معاق جسداً لا روحاً"، ونُقل عنه من قبيل السخرية إنه قال بعد صعوده للسماء :"تركت لبني جلدتي إرثاً علمياً، وتركت للمسلمين نقاشاً غوغائياً حول مصيري".
رحلة سعيدة.. مستر هوكينج .!