رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

أخطر جاسوس بريطانى فى التاريخ


لكى نفهم الواقع يجب أن نمسك الخيط من أوله، إذ إنه حتمًا سيقودنا إلى تفسير حقيقى لأحداث تمر بنا، نستشعرها غامضة وهى فى حقيقتها واضحة جلية، كان الخيط من أوله مع بريطانيا العظمى ومخابراتها، فقد كانت وقتها هى القوة العظمى فى العالم، صحيح كانت قوة آفلة كادت شمسها أن تغيب، وصحيح أن أمريكا الفتية كانت على وشك أن تتأهب لأخذ مكانها، إلا أن هذا لا ينفى أن الأسد البريطانى العجوز لا يزال وإلى الآن شريكًا رئيسيًا لأمريكا، ويكفى أن البداية كانت منه هو.
ذات يوم من الأيام الأولى من عام ١٩٢٠ طرأت فكرة على خاطر «ألفريد ملنر» مدير المستعمرات البريطانى، كان هذا الرجل شخصية محورية فى بريطانيا، وكان قد عمل فى مصر فى نهاية القرن التاسع عشر مساعدًا لوزير المالية الذى كان وقتها إنجليزيًا، استمر ملنر فى مصر أربع سنوات كاملة أصبح خلالها عارفًا بخريطة مصر الجغرافية والسياسية، وحين قامت الثورة المصرية الأولى عام ١٩١٩ تُطالب بالاستقلال، رأت إنجلترا أن ترسل هذا الرجل إلى مصر على رأس وفد إنجليزى كى يدرس أسباب الثورة وكيفية تجنبها، هبط ملنر وهو يرتدى بزته الإنجليزية الأنيقة من سفينته إلى أرض مصر كى يقوم بمهمته هذه فى ديسمبر من عام ١٩١٩، وظل بها إلى آخر مارس ١٩٢٠، تقابل خلالها مع عدد محدود من القيادات التنفيذية والسياسية فى مصر بعد أن أعرضت عنه غالبية النخب السياسية، وأثناء ترحاله فى مصر مع خبراته السابقة وضع حلًا شيطانيًا.
عاد ملنر إلى بريطانيا، وتقابل مع رئيس الوزراء «ديفيد لويد جورج» وأفضى إليه بما حدث له فى مصر من إعراض، وأسر له بالفكرة التى اعتملت فى ذهنه بعدما التقى مع «اللنبى» وعندما خرج من مقابلة رئيس الوزراء أجرت معه جريدة «مانشستر جارديان» حوارًا قصيرًا، قال فيه: «إنه لا يمانع منح مصر الاستقلال بشرط عدم تعريض مصالح بريطانيا للخطر»، ثم أضاف: «إن اللورد اللنبى وافقنى على رأيى حتى ولو كنا سنمنح مصر استقلالًا كاملًا فإن هذا لا يضيرنا فى شىء».
سألته الصحيفة: «وما هى خطتكم فى الحفاظ على مصالح بريطانيا؟».
أجاب: «هناك من قال إن الدين أفيون، ولكننى أؤكد أن الدين قنبلة».
الصحيفة: «لم نفهم شيئًا من إجابتك سيدى!».
ملنر: «لا أستطيع الإيضاح أكثر من ذلك ولكن ليعلم الجميع أن الرب يعمل لمصلحة بريطانيا وسيكون له دور فى استمرار وصايتنا على مصر».
انتهى كلام ألفريد ملنر لصحيفة «مانشستر جارديان» ولكن لم تنته القصة، والآن نستطيع إكمال المعلومات استقرائيًا، فكما فى عالم كرة القدم مهنة قديمة اسمها «الكشاف» يقوم هذا الكشاف بالترحال فى البلاد للبحث عن شاب صغير موهوب فى لعبة الكرة، فهناك فى عالم السياسة والمؤامرات والمخابرات كشاف يجوب العالم للبحث عن موهوب ينفذ خطة المدرب الأجنبى، فمن كان هذا الموهوب الذى تحول إلى أخطر جاسوس بريطانى فى التاريخ؟.
لكى نعرف الإجابة يجب أن نبحث عن إجابات لأسئلة مهمة وهاك الأسئلة:
١ـ لماذا قرر حسن البنا أن يعمل فى مدينة الإسماعيلية التى كانت مقرًا لشركة قناة السويس وإدارتها الأجنبية؟، ولماذا فضل أن يبتعد عن أهله ومدينته أو حتى عن القاهرة التى كانت طموح الريفيين من أصحاب الهمم العالية والرغبة فى البذخ؟.
٢ـ لماذا تبرعت الإدارة الأجنبية لشركة قناة السويس لحسن البنا بمبلغ خمسمائة جنيه وهو مبلغ ضخم بمعايير العشرينيات؟، ولماذا اعترض البنا على قلة قيمة هذا التبرع رغم ضخامته، وفقًا لما أورده فى مذكراته؟!.
ولكى نجيب معًا عن هذه الأسئلة يجب أن نعود إلى ثورة ١٩١٩ وما تلاها لنعرف كيف فكر ملنر، ولماذا وافقه رئيس الوزراء ديفيد لويد جورج؟.
كانت مصر قد بدأت تأخذ خطواتها فى طريق المدنية الحديثة، وتعالت الأصوات من رجالها تطالب بالاستقلال الكامل، وخرجت النساء لأول مرة فى تاريخ مصر فى مظاهرات تشارك فيها الرجال فى المطالبة بالاستقلال، ذلك الحلم المنشود لمصر، كانت كل مصر وكأنها قد تجمعت على قلب واحد يقول: إن مصر دولة ذات حضارة ضاربة فى أعماق التاريخ، ولا ينبغى أبدًا أن تظل رهينة فى يد الاحتلال، حتى ولو كانت إنجلترا امبراطورية عظمى، فإن مصر بتاريخها وعمقها الحضارى أعظم، ولكن موازين القوة لا تعترف بالماضى، هى تعرف الحاضر فقط.
ومع الرغبة الجارفة فى الاستقلال عن إنجلترا، كانت هناك رغبة أخرى كامنة فى الضمير المصرى بالاستقلال عن الدولة العثمانية، ولكن كان هناك أنصار للدولة العثمانية باعتبارها دولة خلافة إسلامية.
انتهت فعاليات الثورة وقبلت الحكومة البريطانية آراء ملنر، وأصدرت الحكومة البريطانية تصريح ٢٨ فبراير ١٩٢٢ الذى أعلن من طرف واحد استقلال مصر، إذ لم يكن هناك فى مصر وقتها من وافق على توقيع معاهدة مع الإنجليز، لذلك جاء بيان الاستقلال هذا على شكل تصريح.
وفى ٣١ مارس ١٩٢٣ خرجت أنفاس المصريين من صدورهم وهى تحمل زفير الفرحة، فقد تم فى هذا اليوم الإفراج عن سعد زغلول ورفاقه، فسافر سعد إلى فرنسا، ثم سُمح له بالعودة إلى مصر فعاد فى ١٨ سبتمبر ١٩٢٣، وسط هذه الأحداث صدر دستور ١٩٢٣، وضح فيه أن مصر أخذت طريقها لبناء دولتها الدستورية الحديثة التى لها خلفية مرتبطة بالوطن والتاريخ.
وفى عام ١٩٢٥ خرج للوجود كتاب فجّر مصر من الداخل، هو كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ على عبدالرازق، أثار الكتاب ضجة كبرى فى مصر والعالم العربى كله، حيث جاء فيه «إن الإسلام لم يضع لنا شكلًا للحكم، ولم تكن الخلافة فريضة ولكنها كانت تناسب عصرها فقط.. ليس المهم عندنا شكل الحكم ولكن المهم هو أن يحقق نظام الحكم الذى نتخيره مقاصد الشريعة»، كانت الطامة الكبرى عند البعض أن الشيخ على عبدالرازق تطرق للخلافة، ونفى فرضيتها أو فريضتها، فقام الأزهر الشريف بسحب شهادة العالمية منه عقابًا له على رأيه، وكتب عشرات الكتاب منذ ذلك الحين إلى وقتنا هذا يحاولون تفنيد رأى على عبدالرازق، وكتب العشرات أيضًا كتبًا تؤيده فيما ذهب إليه.
وضح من هذه المعركة أن مصر انقسمت فعلًا إلى فريقين، فريق يقول: إن الخلافة فريضة، وهى فريضة حتمية، ولا خيار لنا فيها ولا حق لنا فى تبديلها ويجب أن تكون على شكل الخلافة الراشدة، وهى خلافة ممتدة لا حدود لها ولا أرض ولا وطن، أما الفريق الآخر فيقول: «ليس هناك شكل للحكم، ونحن نعيش فى وطن عربى، نستمد عاداتنا وتقاليدنا من تاريخنا ومجتمعنا، ولنا الحق فى أن ننشئ لأنفسنا نظام الحكم الذى يتوافق مع مصالحنا».
انشغلت مصر سنوات بهذا الصراع، وما زالت، وبعد سنوات قليلة من احتدام هذا الصراع، ومن اتجاه جمهرة من المتدينين بالفطرة والعاطفة إلى «وجوب دولة الخلافة» ظهر شاب درعمى صغير فى طور الشباب الأول، ولد فى مدينة المحمودية، وسافر إلى مدينة الإسماعيلية البعيدة عن مدينته، ليعمل بها مدرسًا وفقًا لرغبته واختياره، وهناك حيث مجتمع يضم الموظفين الإنجليز والفرنسيين الذين يعملون فى شركة قناة السويس، ويضم أيضًا أغلبية مصرية من الحرفيين وصغار التجار وصغار الموظفين، فى هذه البقعة المتنوعة يعلن الشاب الذى كان فى بداية العقد الثالث من عمره إنشاء جماعة دينية اسمها جماعة الإخوان المسلمين، هدفها الأسمى هو «استعادة دولة الخلافة» لا تعترف بالوطن الذى نعترف به، وتريد أن يكون وطنها هو الدين، وليس الطين، وكان لهذه الجماعة الدور الأكبر فى قسمة المجتمع المصرى على خلفية عقائدية، لم تكن هذه الجماعة بعيدة عن يد المخابرات البريطانية، بل كانت فى قبضتها وملك يمينها، كانت كقطعة من قطع الشطرنج تحركها يد اللاعب البريطانى العجوز.