رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

حمدي رزق في حوار فصل الخطاب: «كيرياليسون» دفتر لأحوال الوطن.. وكل ما أتمناه هو «الستر»

حمدي رزق في حواره
حمدي رزق في حواره للدستور

«حين جلسنا سويًا على مائدة واحدة للحوار وجدته يُخبرني أن شهيّته مفتوحة للحديث، كان منطقه عائدًا إلى أنها المرة الأولى التي يَبوح فيها بالكلام منذ سنوات طوال إلى الصحافة، اقتصر فيها اشتباكه مع الشأن العام على عموده اليومي «فصل الخطاب» الذي اختار له الكاتب الصحفي أنور الهوّاري اسمه يطل من خِلاله على جمهوره كل يوم.

الكاتب الصحفي حمدي رزق، التقته لـ «الدستور» في حوار عن فيض الخاطر الذي دفعه لكتابة صفحات ترصد أحوالًا جسامًا من دفتر الوطن في أحدث مؤلفاته « كيرياليسون.. في محبة الأقباط»، الذي أكد في سياق حديثه أنه يمسح دموع وطن، انسكبت عبرات أبنائه؛ بعدما حاولت قوى الإثم والعدوان أن تنال من وحدته، لكنهم اختاروا الصمود والوقوف كما الأسد الشامخ قائلين لأمثال هؤلاء:«هيهات هيهات لما توعدون».

الحوار تطرق إلى الحديث عن أوجاع صاحبة الجلالة وهموم الصحفيين، حيث أكد رزق أنه بـ«نظرة» تأمل يرى أن الصحافة ينتظرها مستقبل واعد شريطة تطيّرها من دنس السياسة، وإلى نص الحوار:
◘ بداية.. لماذا اختار قلمك الوقوف على كلمة «كرياليسون».. لتكون هي العنوان الذي خرج به كتابك « كيرياليسون.. في محبة الأقباط»؟

- «كيرياليسون» كلمة تعني «يارب ارحم»، ومن الرحمة تأتي المحبة؛ والمحبة هي العلاج والترياق لكل أوجاعنا الطائفية؛ فالجذر الطائفي الذي تم زرعه على أيدي ممن يسمون أنفسهم بالعلماء، وتعهدوا إياه بالرعاية والسقاية، قد أينع وصار أشبه بالنّبت الشيطاني.

هذا النبت الشيطاني الذي ما أنزل الله به من سلطان، أثمر روؤسًا أشبه بالقوارض الضالة والثعابين؛ استطاعت على حين غفلة في أن تُبث سموم الكراهية والتعالي بين أبناء ذلك الوطن الطيب، لا يشغل بالهم ولا يعنيهم، إلا؛ التفرقة بين المرء وزوجه، والمصري وأخيه.

ولأن التربة المصرية هي في الأساس أرض خصبة وعتيقة، تلفظ دومًا كل ما هو غريب وشاذ عنها؛ فهي الآن بحاجة إلي فيض من المحبة؛ ينزع عنها ومنها لباس ذلك الورم الخبيث؛ ولهذا جاء اختياري لـ« كيرياليسون».

◘ تقول إن «كيرياليسون» تعني «يارب ارحم».. فهل شركاء الوطن بحاجة الآن إلى الرحمة أكثر من شئ آخر؟

- كِتابي عنوانه «كيرياليسون.. في محبة الأقباط»، وكلمة قبطي تعني مصري، وبالتالي فأنا هنا لا أقصد المسيحيين دون المسلمين؛ بل أقصد المصريين.

وعندما تشتد الآلام بالأخوة المسيحيين، وتتكاثر حولهم المحن، وتستحكم الحلقات، تجدهم يتضرعون إلي الخالق بـ «كيرياليسون»؛ فهذا الدعاء هو أيقونة مسيحية، ولحن كنسي تهواه أفئدتهم وعقولهم.

والمسلمون دائمًا ما يرددون في دعواتهم وصلواتهم الدعاء القائل «يا خفي الألطاف نجّنا ممّا نخاف»؛ فالمحبة كلمة، لكن الرحمة هي النعمة؛ لذا فهدفي من ابتغاء ذلك العنوان لكتابي هذا؛ هو أن أقول يارب ارحم شعب مصر من المكائد والدسائس؛ لأننا كلنا في الهم قبط.

◘ لماذا قررت الاشتباك مع الحوادث الطائفية التي جرت وقائعها خلال السبع سنوات الماضية دون غيرها ممن سبق؟

- السبع سنوات الماضية هي بمثابة سبع عجاف في حياة الأخوة المسيحيين؛ وجهوا خلالها أشد أنواع البأس وأقوى معاني التنكيل، وعندما بدأت في التحضير لهذا الكتاب، اخترت أن أبدأ السرد من حادث كنيسة القديسين؛ باعتبارها شكلت مفرقًا من مفارق الوطن، فما قبلها شئ وما تلاها شئ آخر مختلف تمامًا.

ومثلما نقول عنها ذلك؛ فالأمر ذاته ينطبق على حادث «البطرسية»؛ فهذا الحادث هو الآخر شكّل نقطة تحول في مسيرة الوطن، فمن رحم تلك المأساة، خرجت فكرة تأسيس كنيسة العاصمة الجديدة، والتي مثّل افتتاحها بداية لعهد جديد.
◘ لكن بين تلك السنوات السبع الشداد على الوطن.. أي من الحوادث الطائفية هزت وجدانك من الداخل؟

- يوم أن تم تعرية سيدة الكرم، الست سعاد، فهذا الحادث زلزل وجداني، وقتها انتباني شعور بأن مصر تم تعريتها من طيبتها، من قلوب تشبه الحجارة؛ بل هي أشد قسوة، وربما يعود لتلك اللحظة السبب في ظهور كتابي هذا للنور.

◘ البعض يرى في كتابك أنه أشبه بالمَبْحث التاريخي.. فهل حاولت بالفعل أن تقدم شهادة للتاريخ؟

- هذا الأمر يسعدني بالطبع ويشرفني، لكنني عندما بدأت في تسطير صفحاته، كنت أحاول أن أقدم دفتر أحوال المصريين، ومن داخل المصريين يتم التركيز على هموم المسيحيين، فهذا العمل يذهب إلى الماضي مستلهمًا درُوسه؛ لأجل استشراف المستقبل، والوقوف على مشاكل الحاضر المتمثل في فقه كراهية الأقباط، ولهذا يعود السبب في كتابته بطريقة روائية.

◘ طالما وضعت يدك على جُرح الفتنة الطائفية المشتعل خلال السنوات الماضية فلا بدّ أن نسأل ماذا حدث للمصريين؟

- ما حدث للمصريين هو نتاج لمرحلة الهجرة النفطية، فبعد سنوات الغربة الطوال، عادوا إلينا بفقه بدوي، عكس نفسه في تصحر العقول وتبلد القلوب، وقادنا إلي الابتلاء بمظاهر متشددة، صارت ترى أصحاب الديانات الأخرى مجرد أعداء، فالفترة التي تلت عهد الزعيم عبد الناصر، بدت فيها إشكاليات كبيرة في فهم الآخر، وسكنت المجتمع روح شريرة تقتصر مهامها على إرسال إشارات سالبة؛ ألم تقرأ رسالة سليم العوا أثناء حكم الاخوان، وهو يدعي وجود أسلحة بداخل الكنائس.

العقود الثلاثة الماضية ارتدي المجتمع ثياب غريبة، أصبح يُقاس طول المآذن بطول المنائر، وصار المعتاد أن تجد في مواجهة كل كنيسة مسجد، وتحول تنكيس الكنائس إلي عملًا من أعمال السيادة؛ وبات لدينا فرقًا متخصصة في التنكيل والتنكيد.

◘ هل حالة الانحدار الثقافي والتجريف الفكري التي عايشتها الدولة المصرية خلال العقود الثلاثة الماضية تتحمل هي الأخرى وزر تأجيج نار الفتنة الطائفية؟

- الفتنة الطائفية ليست نتاج العقود الثلاثة الماضية، الفتنة تشكلت منذ ظهور جماعة الاخوان في مصر، فقط؛ تأمل تراث حسن البنا المخبوء غير المنشور، هذه الجماعة دائما ما كانت تسير في عكس اتجاه الدولة المصرية، ويشهد على ذلك أقوال وأفعال ورسائل قادتها وأبنائها للتاريخ.

هؤلاء تأخذ فقط من أطراف ألسنتهم حلاوة؛ لكنهم في حقيقة الأمر هم أول من صادروا الإسلام في اسم الجماعة، وذلك عندما أطلقوا عليها الاخوان المسلمين؛ وكأن ما عداهم ليس من المسلمين.
◘ برأيك.. هل ترى في سياسة الاحتواء التي ينتجها النظام الحالي مع الأقباط سيكتب لها النجاح في مُداوة جُرح السنوات الماضية؟

- الفارق شاسع بين رئيس يعي معنى المواطنة ويطبقها قولًا وعملًا، وبين آخر استُكره وخشي من زيارة الكاتدرائية إرضاءً لجماعته؛ وأضمر في نفسه ما لا يبديه نحو شركاء الوطن؛ تاركًا المجال مفتوحًا ومفسوحًا أمام السلفيين لتقبيح المسيحيين، لذا ما يفعله السيسي هو نهج حسن؛ فهذا المنهج سيقود الوطن نحو منطقة حسنت مُستقرًا ومقامًا، وهذه نقطة.

النقطة الثانية، هناك فصل كامل في كتابي خصصته للحديث عن فقه المواطنة الشعبية؛ والذي أراه أحد أهم الأساسات التي يمكن البناء عليها لعلاج تلك المشاكل الطائفية؛ فالشعب المصري بطبعه شعب طواق للمحبة والعيش المشترك؛ والتاريخ يشهد على ذلك؛ فأجمل المديح الذي قيل في رسول الاسلام جري على ألسنة المداحين المسيحيين؛ وأروع تلاوة لسورة مريم خرجت من حناجر القراء المسلمين من أمثال الشيخان عبد الباسط عبد الصمد والطبلاوي وغيرهم.

◘ هناك من يحمل المؤسسة الأزهرية العريقة المسئولية عما آلت إليه الأمور من سيادة لمناخ التكفير.. فهل هؤلاء يحملون الأزهر ما لا طاقة له به؟

- الأزهر عليه واجب وأمانة، وفي ظل إمامة الدكتور الطيب لتلك المؤسسة العريقة فالآمال كبيرة والأماني مشتعلة بتنقية التراث؛ ذلك التراث المنحول الذي تستند وتستقي منه قوي الآثم والبغي تلك التفسيرات الدخيلة.

الأزهر الآن يحمل في عنقه أمانة، إن أسرع وأحسن في أدائها، سيجلب خيرًا كثيرًا لذلك الوطن؛ وإن تباطئ أو تأخر في أداء تلك المهمة والمهنة الواجبة؛ فاللوم هنا واجب؛ والمؤكد أن الفقه الأزهري هو فقه طيب ويجب غسله كغسيل الأحجار الكريمة.

◘ وماذا عن دور وزارة الأوقاف وسيطرتها علي بعض المساجد والزوايا.. والتي غررت بعقول وأفكار الكثير من الشباب؟

- هذا زمن مضى وتولى، فالزوايا لم تعد مصدر للتخلف أو التطرف؛ نحن الآن في عصر الفضاء الإلكتروني بما يحتويه من حوائط وصفحات وتغريدات؛ أصبحت أشبه بمعامل الكراهية، الأمانة تقتضي أن نقول بأن لدينا وزيرًا للأوقاف قوي الشيكمة، نجح في بسط سيطرة الوزارة علي المساجد والزوايا، ونجح في تخريج مجموعات مميزة من الأئمة الشباب إلي ساحة العمل الدعوي.

لكن ومثلما جرت العادة، الأمر لا يسلم أحيانا من حدوث تفلت هنا أو إنفلات هناك؛ وعندها لا مانع من إطلاق صيحات التحذير والتنبه واللوم، ووزير الأوقاف يتلقي تلك الانتقادات بصدر رحب، وبيننا دائما حوار متصل وممتد.

◘ لكن هل تعتقد أن ملف تجديد الخطاب الديني يسير إلى الأمام في ظل وجود حالة من الصراع المكتوم بين المؤسسات الدينية، والتي سبق لقلمك تناولها أكثر من مرة؟

- ما رصده قلمي كان بخصوص سعي وزارة الأوقاف لتنظيم مؤتمر لنصرة القدس الشريف في نفس توقيت مؤتمر الأزهر الذي أعلن تنظيمه؛ وبمجرد أن وصلت لمسامع وزير الاوقاف كلماتي، بادر بالاتصال وأعلن تغيير الموعد.

وأثناء تلك المحادثة التليفونية، نفي لي مختار جمعة ما يتردد جملة وتفصيلا عن وجود حالة من الصراع بينه وبين شيخ الأزهر؛ حيث أكد لي أنه تلميذ في مدرسة الإمام الأكبر؛ وبالتالي فأنا لا أستطيع أن أشكك فيما قاله، وإلا أكون كمن شققت علي قلبه.
◘ في الوقت الذي تسعى فيه المجتمع لحصار المد السلفي الإخواني، تخرج علينا بعض الأقلام علي عجلة من أمرها لتطعن في الثوابت وعلماء الأمة الثقات وما حدث مع الشيخ الشعراوي ليس ببعيد؟

- آن الآوان لأن نميز بين النقد والهجوم؛ فالنقد مباح ومراجعة التراث أمر مشروع، وجُرح الحديث علم؛ فبعض تلك الثوابت، التي يعتنقها كثيرين صدرت من علماء منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر؛ وبالتالي فإعادة قراءتها وتفسيرها من جديد ليس من الموبقات.

وبخصوص ما طال ودار حول الشيخ الشعراوي؛ فهذا العالم الجليل له في النفس مكانة، لكنها لا تمنعنا من أن نراجع بعضًا مما قاله، خاصة أنه في حياته قد عدل عن بعض أفكاره وصوب بعضًا من خواطره؛ وما صدر منه يُأخذ ويرد عليه، فنحن نبحث عن النقد الذي لا يجرح المحبين.

◘ هل يحتاج المصريون إلى صحوة الضمير وثقافة التنوير لأجل اجتياز تلك المرحلة بما فيها من الآلام؟

- بسؤالك هذا تكون قد وضعت يدك على حل الأزمة، فلا بديل عن صحوة الضمير، وسيادة المناخ التنويري؛ فمساحات التنوير الآن أصبحت ضيقة وتضيق أكثر وأكثر؛ لكن هذا لا يمنع من وجود مستنيرين محترمين؛ وأؤكد لك بأن اللحظة التي يكون فيها فقه التنوير سائدًا ستعود الطائفية إلي الخلف حتي تزول.

◘ تقول إن التنوير يتعرض للحصار والتضييق.. فمن المسئول عن اقتيادنا إلى ذلك الخندق؟

- كلنا مسئولون عن ذلك؛ لكن المسئولية الأكبر تقع على التنويرين أنفسهم، فمن السهل أن تُحمل السلطة كل شئ، لكن قبل ذلك عليك أن تتحمل مسئوليتك أولًا، وعندها ستجد من يُعينك عليها.

التنويريون الآن مطالبون بسد الفُرج، والسير جماعة بدلُا من المسير فُرادي؛ فالظلام يحيط بالوطن من كل اتجاه، وهم مطالبون بخرقه، وفتح نوافذ النور أمام أبناء ذلك الشعب الذي علم العالم بأسره معني الحضارة.
◘ حديثك تنساب منه عبارات التفاؤل.. فمن أين تستمد وتستند إلي ذلك الأمل القوي في عودة المصريون لسيرتهم الأولي ولفظهم لأحاديث الفتنة ونار الطائفية؟

- استمد واستند في تفاؤلي هذا إلى فقه المواطنة الشعبية؛ التي رأيتها تتجسد في أداء قُمص لصلاة العصر أثناء جنازة أحد، وتتجلى في جمع أقباط استراليا لتبرعات قدموها لأسرة شهيد كنيسة حلوان.

تفاؤلي هذا أيضًا نابع ومبني علي تلك الحالة التي رأيتها بعيني حال صدور الكتاب؛ عندما أجد فضيلة الإمام وقداسة البابا يمدحون كلماتي تلك، عندما يُرسل الأنبا موسي أسقف الشباب برسالة رقيقة في حفل التوقيع، تثني على شخصي المتواضع وتحمل بين ثنياها إشادة بذلك العمل.

ألم تسمع لقولي أثناء حديثي معك؛ بأن هذه البلد أرض خصبة لا تُخرج إلا طيبًا؛ والذي خُبث لا مكان له فيها.

◘ رغم الاشادات التي نالها العمل، لكن إذا اكتملت الأشياء لا بدّ من نقصان، فهل كان الكتاب يحتاج إلى بعض الإضافات؟

- الإضافة الوحيدة التي كان يحتاجها الكتاب؛ هو أن تكون مقدمة ذلك العمل بقلم سناء البيسي، لكن هذا الحلم لم يُكتب له أن يكون علمًا؛ لكني ما عوضني عن ذلك هو ذلك المقال الذي كتبته عن الكتاب في جريدة «الأهرام»، والذي سيكون مقدمة الطبعة الثانية.

◘ قبل الختام.. كيف تري مستقبل صاحبة الجلالة في مصر؟

- مستقبل الصحافة المصرية بشكل عام والصحافة الورقية بشكل خاص واعد خلافًا لما يظنه البعض؛ نحتاج لأن يتفرغ الصحفيون للصحافة، وأن نكتفي من تلوين الأخبار بالسياسة، والتي يعود لها الفضل في اغتيال المهنة، والخطاب الصحفي يحتاج إلى تنقية، فقد حان الوقت للاكتفاء من سيادة الأخبار المجهولة؛ فنحن من جَنينا على صاحبة الجلالة، بالرغم من أننا ورثنا المهنة من آباء صدق لم يقصروا ذات يوم في تعليمنا.

◘ أخيرًا.. حمدي رزق هل لديك أقوال أخرى؟

- خلال مسيرتي المهنية أصبت وأخطأت؛ لكنني نجحت في أن أحتفظ بسطور المحبة مع الجميع، ونعم الله علىَّ لا تعد ولا تحصى؛ وكل ما أتمناه هو الستر.