رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

محمد فودة ‫يكتب: سر الدبلوماسية السعودية فى صالون رياض النيل

جريدة الدستور

لا يزال السفير أحمد قطان، سفير المملكة العربية السعودية بمصر، مندوبها الدائم لدى جامعة الدول العربية، يدهشنى باختياراته الموضوعات التى ينتقيها بحرص وعناية فائقة فى الصالون الثقافى «رياض النيل» الذى ينظمه فى منزله بشكل منتظم، فقد كان اختياره موضوع «السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية» محورًا للأمسية الأخيرة من الصالون، الذى كان ضيف الشرف فيه الدكتور نزار مدنى، وزير الدولة للشئون الخارجية بالمملكة، بحضور عدد من الوزراء والشخصيات العامة والمفكرين والسياسيين والسفراء ورؤساء مجالس إدارات ورؤساء تحرير بعض الصحف والكُتّاب والإعلاميين دليلًا واضحًا على ذلك.
هذا الموضوع جاء فى التوقيت المناسب، خاصة أن المنطقة العربية تموج بالكثير من الأحداث السريعة والمتلاحقة فى ظل علاقات دولية أكثر تعقيدًا وأكثر تشابكًا، مما زاد من حالة الارتباك التى يبدو عليها المشهد الدولى الراهن.
وفى تقديرى، تكمن هنا أهمية الموضوع والضيف.. فالدكتور مدنى شغل العديد من المناصب ومثّل بلاده تمثيلًا مشرفًا فى العديد من المحافل والمنظمات والمناسبات الدولية المهمة. كما صدرت له ٣ مؤلفات، تناولت كواليس وأجواء رحلته الدبلوماسية وعلاقته بالفكر والسياسة، فضلًا عن ذلك، فإن لمصر مكانة خاصة فى قلبه، حيث حصل على شهادة البكالوريوس فى العلوم السياسية من كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة عام ١٩٦٤.
وكعادته قدم السفير أحمد عبدالعزيز قطان ضيفه بمقدمة شديدة الروعة وشديدة الإتقان أيضًا، حيث كانت فى حد ذاتها أشبه بمحاضرة ألقاها شخص متمرس ومتمكن ومعجون فى السياسة، وكيف لا يكون كذلك وهو يحمل لقب عميد السلك الدبلوماسى العربى، إلى جانب كونه سفيرًا مهمًا فى مصر لدولة أكثر أهمية.
أما الدكتور «مدنى» فقد استطاع بذكائه أن يحوّل الأمسية إلى محاضرة فى شرح مفهوم العلوم السياسية بشكل سهل ومبسط، فقد استهل حديثه بإلقاء الضوء على التعريفات والنظريات المختلفة لمفهوم السياسة الخارجية، بشكل عام، وأهم العوامل التى تؤثر على اختيارات الدول، والتى تدفعها لأن تتبع نهجًا سياسيًا دون الآخر على صعيد علاقاتها الدولية، لافتًا إلى الأسس التى تقوم عليها السياسة الخارجية الناجحة فى أى دولة وفى أى زمان مهما اختلفت الظروف ومهما تباينت الرؤى.. وعلى الرغم من أن بداية حديثه كانت مجرد تعريفات عامة، إلا أن أجواء الحديث تحولت بشكل جذرى حينما بدأ يتحدث عن السياسة الخارجية للمملكة.. فقد أكد «مدنى» أن هناك ثلاثة محاور رئيسية تحدد نهج السياسة الخارجية السعودية، أولها «محور الثوابت»، وأعطى فيه للحضور صورة كاملة عن السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية، فمنذ أن تأسست المملكة على يد الملك الراحل عبدالعزيز آل سعود وهى تسير على منوال ومنهج ثابت فى سياستها الخارجية، والمبادئ الأساسية التى حكمت، ولا تزال، هذا النهج لم تتغير أو تتبدل على مر الزمن، وقد أشار الدكتور «مدنى» إلى مسألة فى غاية الأهمية، تتمثل فى أن أى قرار أول تحرك سياسى خارجى تقوم به المملكة العربية السعودية ينبع أساسًا من حقيقة أولية، مؤداها أنها جزء من الأمة العربية الإسلامية.. ليس هذا فحسب، بل إنها تقف بصلابة إلى جانب كل القضايا العربية، مضيفًا أن السياسة الخارجية للمملكة تقوم على مبادئ وقواعد أساسية، تتضمن احترامها المواثيق والتعهدات والاتفاقيات الدولية التى تبرمها مع غيرها من الدول، وأيضًا تقديرها الكامل للدول التى تتبادل معها التمثيل الدبلوماسى.. ليس هذا فحسب، بل إنها أيضًا تحرص دائمًا على احترامها المنظمات الدولية التى تنتمى إليها، وتعاملها مع غيرها من الدول على أساس صادق من الاحترام المتبادل، ورعاية المصالح المشتركة، وحل المنازعات بالطرق السلمية، وعدم التدخل فى الشئون الداخلية لأى دولة، مهما كانت الأسباب والدوافع وراء ذلك التصرف.
ولأن الشىء بالشىء يذكر، فقد تناول الدكتور «مدنى» قضية «مكافحة الإرهاب» بشكل دقيق وفى منتهى الذكاء، حيث أشار إلى أن المملكة العربية السعودية اتخذت من ظاهرة الإرهاب موقفًا صلبًا وقويًا بغية مكافحتها واحتواء آثارها المدمرة، فلقد دأبت المملكة على إدانة الإرهاب بجميع أنواعه وأشكاله، وضمت جهودها إلى جانب الجهود الدولية المبذولة للتصدى لهذه الظاهرة الخطيرة، التى لا يمكن مكافحتها إلا من خلال عمل دولى متفق عليه، يكفل القضاء عليها، ويصون حياة الأبرياء، ويحفظ للدول سيادتها واستقرارها، وقد أثمرت الجهود الحثيثة التى بذلتها المملكة فى هذا الصدد عن الموافقة على اقتراحها بإنشاء المركز الدولى لمكافحة الإرهاب تحت مظلة منظمة الأمم المتحدة.
وعلى الرغم من تلك العلاقة القوية التى تربط بينه وبين مصر، إلا أن الدكتور «مدنى» ترك الحديث عن العلاقات السعودية - المصرية إلى نهاية المحاضرة، واصفًا إياها بـ«الحلو» الذى يأتى فى نهاية أى مأدبة طعام، مؤكدًا صلابة وقوة هذه العلاقة الأبدية.
وهنا، لا يسعنى إلا أن أحيى الدكتور «مدنى» خاصة فى قوله: «إننا فى المملكة العربية السعودية نؤمن أن مصر منّا ونحن منها.. ديننا ودينها واحد.. قرآننا وقرآنها واحد.. نزل به الروح الأمين فى مكة المكرمة والمدينة المنورة، وما زال يتلوه ليل نهار قراء مسلمون فى القاهرة والإسكندرية وفى أسوان وطنطا.. وطنها ووطننا قطعتان من هذا الشرق الأصيل بعاداته وتقاليده وحضارته وثقافته.. وماضيها وماضينا فصلان من كتاب واحد فى تاريخ العرب والمسلمين.. تاريخها وتاريخنا مشترك.. جربنا فيه سراء الحياة وضراءها، وتلاقت أهدافنا لنصرة المُثُل العليا التى كنا جميعًا ولا نزال نؤمن بها وندافع عنها».
وجاء التكريم بمنحه درع «رياض النيل» لينهى أمسية من أجمل وأروع أمسيات صالون «رياض النيل»، التى يضيف إليها السفير قطان فى كل مرة جزءًا من ثراء روحه التى تشع دائمًا إبداعًا وثقافة وفكرًا، تغلّفه قيمة الصداقة التى تربطه، ليس بأهل السياسة فى مصر وحسب، بل بأهل الفكر والثقافة والإعلام أيضًا.