رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

«جئناكم بالحب».. متصوفة أوروبيون لـ«الدستور»: أهل المدد جذبونا للإسلام

جريدة الدستور

بين اختيار الوقوع فى أسر التيارات المتشددة أو اللجوء للإلحاد، يعانى الشباب الأوروبى، خلال العقود الأخيرة، من الاختيار الصعب، خاصة فى ظل سيطرة النزعات المادية على الحياة، وافتقاد المجتمع الإنسانى الحديث أبعاده الروحانية التى يحتاج إليها الإنسان ليتعرف على الغاية من حياته ووجوده.
ووسط هذه الدوامة، نجحت الحركات الصوفية فى اجتذاب أعداد كبيرة من الشباب الأوروبى فى الآونة الأخيرة، بعد تزايد أعداد المنتمين إلى هذا الفكر فى الأوساط الشبابية فى دول كبرى مثل فرنسا وألمانيا، لما تحمله من قيم خاصة تنأى بالمجتمعات عن الوقوع فى براثن الأفكار العدمية أو المتطرفة.
«الدستور» التقت عددًا من الباحثين والشباب الأوروبيين المنضمين للطرق الصوفية، لمعرفة العوامل التى أدت إلى تحول هذه الحركات إلى ظاهرة، وأسباب قبولها الواسع بين أفراد هذه المجتمعات.

فرنسى: «القادرية» أنقذتنى من التطرف والإلحاد.. ويهودى سابق: الحب وراء تحولى للإسلام
كشف ياسين علوى، أحد مريدى الحركات الصوفية فى فرنسا، عن أن ما جذبه إلى التصوف هو المسائل الروحانية، خاصة أنه كان يدرس فى كلية الفلسفة، وأصبح ملحدًا كارهًا للإسلام والدين بسبب العنف الذى تمارسه التيارات الإسلامية المتشددة فى فرنسا وبعض الدول الأوروبية الأخرى.
وقال «علوى»: «والداى مسلمان، لكن مع الصورة السيئة التى رسمها المتطرفون فى ذهنى عن الإسلام، تركت الدين، كما أن دراستى الفلسفة كانت سببًا آخر لكى أصبح ملحدًا، لكن والحمد لله بفضل التصوف رجعت إلى الدين الإسلامى مرة أخرى».
وأوضح أن السبب الرئيسى الذى جعله يتجه الى التصوف، دون غيره من المناهج الإسلامية، هو المحبة التى تظهر بين المريدين، وحب الشيخ الصوفى لتلاميذه وأتباعه، خاصة أن مشايخ الصوفية فى أوروبا يتعاملون مع مريديهم بكل أدب وحب واحترام، وهو ما لا يوجد فى تيارات إسلامية أخرى.
وأضاف: «عندما اتجهت من مدينة ليون إلى باريس، لاستكمال دراستى العليا، وكنت وقتها قد خرجت من الإسلام، وأثناء تصفحى مواقع الإنترنت وجدت موقعًا خاصًا بالطريقة القادرية الصوفية، وسمعت بعض علمائها الذين كانوا يتحدثون الفرنسية بطلاقة، وتواصلت معهم».
وتابع: «تعرفت عن طريقهم على مسئول ومقدم الطريقة فى باريس، وعلمت أنهم يقيمون حضرة، وبعض الدروس العلمية، وأعجبت بالإنشاد الصوفى، الذى يقدمه منشدو الطريقة، وشعرت بروحانيات جميلة وبأفكار بعيدة عن تيار التشدد والعنف، ما جعلنى أتخذ قرارى بالانضمام إليهم وآخذ العهد الصوفى على هذه الطريقة».
واستكمل: «بعدما أصبحت صوفيًا قادريًا، علمت أن هناك آلاف المسلمين الصوفيين فى أوروبا، وبعضهم كانوا يهودًا أو مسيحيين ثم أسلموا من خلال التصوف، ولا يمكننى حصر مريدى الصوفية فى فرنسا لأنهم كثيرون جدًا، ويتبعون أكثر من طريقة، على رأسها القادرية والتيجانية والشاذلية والرفاعية والنقشبندية».
وعما يميز هذه الطرق الصوفية عن غيرها من الحركات والتيارات الإسلامية الأخرى، قال الشاب الفرنسى: «أكثر الأمور التى جعلتنى أرتاح للمنهج الصوفى، هى الراحة النفسية وانشراح الصدر، الذى يشعر به الإنسان عندما يسمع القصائد والمدائح الدينية، التى تصف النبى محمد، صلى الله عليه وسلم، وآل البيت الكرام، فضلًا عن أن علماء الطريقة القادرية فى أوروبا لم يعلمونى سوى المحبة فقط، ولا يقولون لى ما يجعلنى أكره الآخرين».
وأشار إلى أن الطرق الصوفية فى أوروبا لا تختلف كثيرًا عن بعضها البعض، فالجميع يبتغى محبة الله والرسول، ويرون أن الإسلام هو دين محبة وإخاء ورحمة، وهذا ما يجعلهم يبتعدون عن الأفكار المنحرفة، التى أعطت صورة فاسدة عن الإسلام والمسلمين، خاصة أن الجماعات المتشددة لا تعلم أتباعها سوى العنف والقتل.
أما عن موقف المحيطين به من تصوفه، فأشار إلى أن عائلته كانت متخوفة فى البداية منذ انضمامه للصوفية، لكن بعد حضورهم بعض اللقاءات الخاصة بالطريقة القادرية، انتهت مخاوفهم، لأنهم سمعوا أفكارًا تدعو إلى المحبة والتسامح وعدم كراهية الآخرين.
واختتم حديثه بقوله: «التصوف الإسلامى أنقذنى من التطرف والإلحاد، ويرجع الفضل فى الأمر إلى الطريقة القادرية، وشيوخها فى فرنسا، الذين جلسوا معى وأطلعونى على المنهج الصوفى فى المحبة والسلام».
فى الإطار نفسه، روى الشاب الفرنسى داوود مراونى قصته مع الصوفية، وكيفية انتقاله وعائلته من اليهودية إلى الإسلام، بعد حضوره ومشاهدته أجواء الحضرة الصوفية، وحلقات الذكر، والإنشاد الدينى.
وقال «داوود»: «دخلت الإسلام بعد محبتى المنهج الصوفى القادرى، الذى حولنى من إنسان يهودى يكره المسلمين، إلى مسلم يحب الجميع، ولا يكره أحدًا، حتى المختلفين معه فى الدين والرأى».
وأرجع تحوله إلى الإسلام وانضمامه إلى المتصوفة، إلى علماء ومشايخ الطريقة القادرية الصوفية، لأنهم «عرفّوه بالإسلام الحقيقى، الذى لا يكفّر الآخرين، ولا يأمر بقتل المختلفين فى الدين، مثلما يفعل المتشددون الدواعش، الذين يقولون على أنفسهم إنهم مسلمون، وهم فى الواقع لا يعرفون شيئًا عن الإسلام، حتى إنهم شوهوا الصورة الحقيقية لهذا الدين».
وأضاف الشاب الفرنسى: «عندما انضممت للمتصوفة، وجدتهم ينقلوننى من محبة الدنيا وملذاتها وشهواتها، إلى محبة الآخرة، وإلى البحث الحقيقى فى ذات الله، التى وجدتها فى قراءة القرآن والأذكار الدينية، التى يرددها مريدو الطريقة فى جميع أحوالهم، سواء كانوا فى حلقة ذكر، أم على موائد الطعام».
وتابع: «شاهدت الصوفيين فى فرنسا لأول مرة داخل إحدى الزوايا بمدينة نيس، وكانوا يقومون بحلقة ذكر، ويرددون الأبيات والقصائد الدينية، وجذبتنى إليهم قصيدة (تشوقت روحى لشط الوادى.. فها أنا ذا.. ربى خذ بيدى)».
هذه القصيدة، كما يؤكد «داوود»، جذبته إليها نتيجة ما تمتلئ به من الروحانيات والمحبة الإلهية، للمولى عز وجل، وجعلته ينتقل إلى المغرب للانضمام إلى الزاوية القادرية، التى تعرف فيها على شيخ الطريقة، الذى شمله بمحبته وعطفه، حتى إنه أصبح يُقنع كثيرين بالانضمام إلى الإسلام.

ألمانى: الحضرة والإنشاد جذبانى.. والقادرى: الرحمة والمعاملات والأخلاق أسلحتنا الرئيسية
قال عبدالحميد مجيد، أحد مريدى الفكر الصوفى فى ألمانيا، إن التصوف الإسلامى يتسم بعدم وجود أفكار التطرف والإرهاب التى توجد عند تيارات إسلامية أخرى مثل الإخوان والسلفيين، وهذا العامل هو ما جذبه وعائلته للانضمام إلى الجماعة الصوفية، والانخراط فى الطريقتين «التيجانية» و«القادرية».
وأضاف: «التصوف الإسلامى كان أمرًا جديدًا علينا، ولم نعرف عنه أى شىء من قبل، ومنذ ٥ سنوات، لاحظنا انتشار عدد من المقار والزوايا الصوفية فى ألمانيا، وما شجعنا على الدخول فى صفوفهم هو ما لاحظناه من احترام كبير وتقدير، من قبل مشايخ الصوفية لنا كمريدين، وكونهم يعلموننا أمور الدين دون أن يطلبوا أى شىء فى المقابل، وهذا ما جعلنا نثق فيهم وفى علمائهم».
وتابع: «الطرق الصوفية تنشر منهجها من خلال الإنشاد الدينى والندوات التثقيفية، والحضرة والسماع، لذا دخل كثير من المواطنين الألمان إلى الإسلام عبر هذه الطرق».
واستكمل: «بعد دخولى الطريقة القادرية وجدت مريدين كثيرين من جميع أنحاء القارة الأوروبية، وعلمت بوجود ملتقى سنوى تنظمه الطريقة لكل مريديها فى أوروبا، ويروون فيه حكاياتهم وقصصهم مع التصوف وكيف أنعم الله على كثيرين منهم بالإسلام».
ورأى «عبدالحميد» أن التصوف الإسلامى هو الكنز الحقيقى لتخليص المجتمعات الإسلامية من التطرف والإرهاب، وذلك لأن الطرق الصوفية تربى فى أفرادها محبة الله، واللجوء إليه بشكل دائم، ولا يكفّرون الآخرين، مثلما تفعل التيارات الأخرى المتشددة.
من جهته، قال الدكتور منير القادرى، نائب الطريقة القادرية الصوفية، عضو المجلس العالمى للجاليات الإسلامية فى أوروبا، إن التصوف الإسلامى انتشر فى سائر الدول الأوروبية من خلال الرحمة والمعاملات والأخلاق، خاصة أن هذه المجتمعات تفتقر إلى الروحانيات والمحبة، وغيرها من الجوانب الموجودة فى الفكر الصوفى، ما جعلهم يتقبلون التصوف، ويرفضون المناهج المتطرفة والسلفية الداعية إلى الكراهية.
وعن أسباب تحول التصوف إلى ظاهرة فى السنوات الأخيرة، أضاف: «الطرق الصوفية، خاصة المغربية، استطاعت التغلغل فى القارة الأوروبية بصورة كبيرة بسبب تخوف هذه المجتمعات من الإسلام المتشدد، فى ظل ما يعيشه عالمنا الإسلامى من إرهاب وعنف وقتل، وهذا ما جعلهم يبحثون عن المناهج الوسطية، خوفًا من التشدد، لذا عندما يسمع المواطن الأوروبى القرآن، أو الإنشاد والسماع الصوفى فإننا نجده يبكى، بسبب إحساسه بالروحانيات التى تُوجدها القصائد والمدائح الصوفية».
وأضاف: «الغرب يعيش فى رفاهية وغنى مادى، لكنه يعيش فى فقر روحى، ويعانى الأزمات والتشتت العائلى وانتشار الانتحار، حتى أصبح المواطن الأوروبى يبحث عن الجانب الذى يُشبع البعد الروحى لديه، لذا وجد ذلك فى التصوف الإسلامى».
وكشف عضو المجلس العالمى للجاليات الإسلامية فى أوروبا، عن أن كثيرًا من المواطنين والشباب الأوروبيين من ألمانيا وفرنسا وبلجيكا وإيطاليا وإنجلترا يدخلون الإسلام من باب السماع الصوفى، وأن بعض الناس حين يسمعون حلقات الذكر تنفتح قلوبهم على الإسلام، ما جعل التصوف ينجح بشكل كبير فى الفترة الأخيرة، ويحظى بدعم حقيقى فى مواجهة الجماعات والتيارات المتشددة.
واعتبر «القادرى» أن الطريقة الصوفية عبارة عن مستشفى، كل واحد يدخله يشعر بالراحة القلبية ويعيش بعد ذلك فى سلام داخلى، لذا فالإنسان الصوفى، سواء كان عربيًا أو أوروبيًا، يبتعد بطبعه عن الإرهاب والعنف، ويحيا بالرحمة، ويتحلى بمحبة الله، ومن ثم يتخلى عن المعاصى والذنوب وغيرهما من هذه الأمور. وتابع: «نحن كطريقة صوفية نحاول نشر القيم والخصال الكريمة فى المجتمعات الأوروبية، من خلال تأكيد الرسالة الإسلامية السمحة، التى جاء بها هذا الدين الحنيف، وشيوخ الطريقة جميعًا يقولون إن العدو الحقيقى للإنسان هو النفس، وتحكم أمراض العجب والرياء، لذلك فمنهجنا التربوى يجذب الناس إليه من خلال تأكيده أن الإسلام هو رحمة الله للعالمين».

باحثة بريطانية: الصوفية تصلح بديلًا عن الإسلام السياسى
حول قدرة الحركات الصوفية على التصدى للتيارات المتشددة، قالت أسما مرجرت، المتخصصة فى الشئون الصوفية بالمملكة المتحدة، إن الصوفية تستطيع بالفعل أن تكون بديلًا لتيار الإسلام السياسى، مطالبة بالفهم الدقيق للفكرة الصوفية، فى ظل خلط الكثيرين بينه وبين «الدروشة».
وأضافت الباحثة البريطانية: «ما أعنيه بالصوفية القادرة على التصدى للتشدد ليس الصوفية الشعبية أو الدروشة، وإنما الصوفية بمعناها الروحى، التى تمكننا من العودة إلى الإسلام الإنسانى، والعقلانى، الرافض للتطرف».
وعن الفارق بين التيارين، أوضحت: «الصوفية تريد أن تكون حركتها فى إطار التماهى مع الكون، ملتزمة فى ذلك بمصادر روحانية، بينما الإسلام السياسى ينتج خطابًا خارجيًا شكليًا، دون أن يكون له أى سند روحى قوى، كما أن فردية الفكر الصوفى وانشغال أتباعه بإصلاح النفس هو ما تبحث عنه معظم المجتمعات الأوروبية التى تريد أفكار المحبة والروحانية دون النظر إلى الشكل أو العِرق أو اللون أو الجنس».
وأضافت مرجرت: «الصوفية كحركة دينية لم تكن دائمًا على هامش التغيير السياسى فى العالم، لكنها متهمة بذلك، حتى إن البعض يتهمها أيضًا بأنها دعمت الاستعمار قديمًا، وأوجدت له الشرعية، ويغفل عمدًا دور عدد من كبار المتصوفة فى قيادات حركات التحرر فى بلادهم».
وتابعت: «فى أوقات كثيرة كان بعض رجال الإصلاح فى مجتمعاتهم، وعدد من قيادات مقاومة الاستعمار لهم منطلقاتهم الصوفية، ويمكن رؤية ذلك بوضوح إذا نظرنا إلى الأمير عبدالقادر الجزائرى، الذى كان رجل سياسة، وأحد كبار رجال الصوفية فى الوقت نفسه، وهذا التاريخ يوضح لنا معانى الفكر الصوفى المقاوم، الذى لا يقتل الآخرين بسبب الاختلاف فى الدين والرأى، كما يفعل المتأسلمون الحاليون».