رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رحلة فى الذاكرة (6).. الطفولة فى المدينة بين الخط والروح


صباح الجمعة الماضى، وفى ١٦ فبراير ٢٠١٨ وأنا فى طريقى من المسجد إلى المنزل، وجدت نفسى لم أتمكن من كتابة الحلقة السادسة من ذكريات الطفولة، لقد احتفظت الذاكرة بكثير من الأحداث، لكنى لم أتمكن من الاختيار، فسألت الله عز وجل أن يهدينى إلى أفضلها.
وصلت إلى المنزل وشاهدت فى التلفاز على قناة روسيا اليوم، لقاء مع إبراهيم خليل سيفانوف القوقازى المسلم، وهو يحكى عن مسيرته الفنية ولوحاته التشكيلية، فقد كان معظم لوحاته فرضية للوصول إلى حقائق ماثلة، لكنه لم يشاهدها مثل الكعبة والمسجد النبوى، وحقائق لم يشاهدها أحد من البشر، إلا بعض الذين أنعم الله عليهم من الأنبياء وهو البُراق، كما كان يعشق الخط العربى، ففى شق منه فن تشكيلى عبر عنه بعض الفنانين من أمثال الفنان المبدع سالم باجنيد بجدة، والذى فسر الآيات القرآنية بالفن التشكيلى، فوصل إلى ما لم يصل إليه المفسرون، والفنان الخطاط المسلم اليابانى «فؤاد كونتشى هوندا»، الذى جسد الحقائق الإيمانية بالآيات القرآنية، وشيخ الخطاطين الأتراك الحاج أحمد كامل الذى أبدع فى تجويد أنواع الخطوط، والخطاط الأمريكى المبدع محمد زكريا الذى التقيت به بمكتبة الكونجرس، وقد أسلم بسبب جمال الخط الإسلامى بحروفه العربية.
وتذكرت يوم كنت فى السابعة من العمر تقريبًا، وكان والدى يحرص على أن أحفظ القرآن فى الإجازة السنوية، فألحقنى بكُتّاب الشيخ مصطفى فقيه، الذى يقع على مدخل المسجد النبوى بباب المجيدى بالمدينة المنورة، فكان الكُتّاب على يسار الداخل للمسجد.
كان الشيخ مصطفى يجلس على الشباك المرتفع يراقب الطلاب، ويتابع التدريس الذى يقوم به أحد المشايخ من مصر الذى كان ضريرًا، كان الشيخ مصطفى حازمًا يخيف الطلاب بخيزرانته التى يضعها أمامه على الدوام، كنا نحفظ بشكل جماعى، ونكتب على الألواح بالمضر، وهو عبارة عن قطعة بيضاء نبلّها فى الماء ونكتب بها، فإذا حفظنا الآيات مسحنا ما نكتب فى حوض بالكُتّاب ملىء بالماء.
لقد شدنى الخط المكتوب على قباب المسجد، فكنا نقرأ الآيات عندما نسير فى الداخل للصلاة، وكان من يحفظ القرآن يعمل له «صرافة»، ويبتهج الجميع بهذه المناسبة، وتوزع فيها الحلوى على الطلاب ويأتى الآباء لحضور الصرافة.
أما الكتّاب الذى أمامنا فكان الشيخ بن سالم هو مديره، وكان لديه رُقْية لمرضى الطحال. فمن يعانى منه يرقيه بالرماد فيشفى فى الحال، دعاه ذات مرة صديق له فى القاهرة لعلاجه من مرض ألمّ به، فذهب إلى قسم الطحال ورقاهم فشفاهم الله وطلب منه صديقه صاحب المستشفى البقاء فى مصر، لكنه رفض لأنه يرغب فى الحياة والممات فى المدينة المنورة.
هذه الكتاتيب تقع فى آخر الحرم المدنى من الشمال عند باب المجيدى، وفى تلك الأيام فوجئنا صباحًا وقد وجدنا الكتّاب مغلقًا، فقيل لنا إن الأستاذ مصطفى فقيه قد مات فجأة، وهو يسير فى أحد شوارع المدينة وأخذونا للصلاة عليه ظهرًا.
بعد سنة أو أكثر بُدئ فى توسعة المسجد النبوى فى عهد الملك سعود رحمه الله، وكانت خارج باب المسجد ميضأة يتوضأ المصلون فيها، فكانت أول ما تناوله المشروع بالهدم، وبينما كانت الجرافات تجرف أنقاض المبانى، إذا بعدد من أوانى الفخار الكبيرة تتحطم ويظهر ما بداخلها من نقود ذهبية قيل إنها منذ عهد عمر بن الخطاب رضى الله عنه.
تخاطفها العمال وطلاب المدرسة الناصرية التى كانت تجاور المسجد، وأخذ الطلاب حفنات من العملة أودعوها جيوبهم، لكن سرعان ما وصلت الجهات الأمنية، وجمعت ما يمكن جمعه من هذه النقود، كما قاموا بتفتيش الطلاب وأخذوا ما لديهم، لكن الطالب منصور التركى الذى أصبح فيما بعد مديرًا لجامعة الملك سعود استطاع أن يخفى عددًا منها لا يزال يحتفظ بها إلى اليوم.
انقطعت عن الكُتّاب وأصبح الوالد يأتينى بالأساتذة إلى المنزل، كى أدرس المواد التى أعانى منها، وفى أحد الأيام وعندما كنت فى الكُتّاب، كان لى صديق ظلت صداقتنا قائمة حتى اليوم، هذا الصديق هو عبدالرحمن دفتردار فقد كان رمزًا للاستقامة والوفاء.
وذات يوم أخبرنى أن أحد الحجاج علمه قراءة إذا حمل العقرب لا تلدغه، وحفظتها منه، كانت الكلمات تقول «كفاك ربك وكم تكفيك وأكفه كفاكافها تكر كراكا ككر الكر فى كلك، تحكم شكشكة كلت لها الكلكى، فيا كوكبا ككميم كان كربته، وكان يحكى كوب الفلكى».
ما إن انتهى اليوم الدراسى حتى ذهبت إلى المنزل، وفى ساحة الحى خلف معسكر الجيش بما يعرف بمناخة ديرو، وجدت بعض الصبيان يلعبون ومن بينهم أخى مصطفى، فقلت للصبيان من زملائى، أحضروا لى عقربًا أريكم كيف أحملها.
فتّش الصبيان فى دكة ناصر، حيث كانت عبارة عن مجلس مرتفع، يجلس فيه العم دياب ناصر وزملاؤه من العلماء والمثقفين، فيتشاورون ويتطارحون الآراء، ويعرضون أشعارهم ويستعرضون مواقفهم فى كل ليلة.
كان العم دياب ناصر من وجهاء المدينة، وكان يعمل مسئولًا عن البادية، ويقال له باب عرب، فهو الذى يجرى الاتصال بالقبائل، ويصلح فيما بينهم ويبلغهم توجهات الحكومة، فقد عاش العهود الثلاثة يتحمل هذه المسئولية فى العهد العثمانى، وعهد الأشراف، والعهد السعودى.
وبموته ألغى هذا المنصب، وهجرت الدكة التى كان يجتمع فيها الوجهاء والعلماء والمثقفون، ولم يعد أسفلها إسطبل للخيول، بل تحول الإسطبل للحشرات والعقارب تعيش فيه، جاء الصبيان وبحثوا فوجدوا عقربًا صفراء مخيفة، فحملوها بالعصىّ وجاءوا بها.
قرأت على العقرب هذه الكلمات، ثم مددت يدى إلى العقرب فصعدت عليها ولم تلدغنى، فاستغرب الصبيان وجاء أحدهم مكابرًا وأراد أن يفعل دون أن يقرأ فلدغته العقرب، فملأ الحى صراخًا وعاد مولولًا إلى أهله.
لم أجد تفسيرًا لهذه الكلمات، ولم أجد تعليلًا يربط بين هذا القول والعقرب، فهل تستمع العقرب وتعى ما يقال؟، أم أن لهذه الكلمات تأثيرًا عليها، وهل هى طلاسم لا تفسير لها؟. لقد ظللت سنوات أضع العقرب فى كفى وأقبضها دون أن ألدغ، ففى العالم أمور ليس لها تفسير تظل تبحث عنها، وستبقى أمور كثيرة تعيش فى عالم الغموض.
لقد كانت التفسيرات غير مقنعة، فمنهم من قال إنها أبيات لعلى بن أبى طالب، ومنهم من قال إن المتصوفة والمشعوذين يستخدمونها لمواجهة العقارب والأفاعى، وآخرون قالوا بأن ملكًا رفض تحرير الشاعر من سجنه حتى يأتى بثلاثة أبيات بها أربعون كافًا.
أما ما أميل إليه، فهو أنها من علم الرقوم، الذى يقسم الحروف العربية والعبرية إلى قسمين، قسم يمثل الروح وقسم يمثل الجسد، فما يمثل الروح هو ما جاء فى أوائل السور من القرآن الكريم والنصف الآخر يمثل الجسد، إذن هو تأثير روحى على الحيوانات والجمادات والله أعلم.