رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

مُسيلمة.. هل كان مدّعيًا للنبوة أم منافسًا على حكم العرب؟

جريدة الدستور

فى اللقاء الذى جمع بين النبى ومسيلمة طلب الأخير منه أن يجعل له حكم العرب من بعده كشرط لاتباعه

كتب التراث تقدم مسيلمة فى صورة الذكر الشهوانى لكنها لم تفسر لنا سر التفاف الآلاف من أهل اليمامة حوله

أتباع مسيلمة هزموا جيش عكرمة وشرحبيل بن حسنة ودوخوا جيش خالد بن الوليد



مسيلمة الحنفى من الشخصيات التى يختزن المسلمون حولها صورة نمطية. فكلهم تربى على فكرة أن «مسيلمة» ادعى النبوة أواخر أيام رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وكان من المرتدين عن الإسلام بعد وفاته، وحاربه أبوبكر الصديق، رضى الله عنه، حتى تمكن من القضاء عليه وعلى الآلاف من أتباعه من أهل «اليمامة». اشتهر مسيلمة بوصف «الكذاب». وانطلاقًا من هذا الوصف تشكلت صورة شديدة السلبية للرجل لدى الأجيال المتعاقبة من المسلمين، طبقًا للروايات، التى تحكيها كتب التراث عنه. فى المقابل، ظهرت بعض الكتابات لباحثين محدثين رسموا فيها صورة لـ«مسيلمة» تتناقض مع ما قدمته كتب التراث، صورة تستطيع أن تقول إن أغلب ملامحها قائمة على الاستنتاج، وليس الاعتماد على أدلة ثابتة تبرهن على ما ذهبوا إليه. اتهموا كتب التراث بعدم تقديم صورة حقيقية لـ«مسيلمة»، ورغم أنهم محقون فى ذلك، إلا أن ذلك لا يعنى بحال أن يبنوا تصوراتهم لهذه الشخصية على الفرضية النقيضة، فيذهب بعضهم إلى أن ما تذكره كتب التراث من «آيات» ساذجة كان يتلوها مسيلمة منتحلة عليه، ثم يتبنى الفرضية النقيضة ويزعم- دون أى دليل- أن «قرآنًا» نزل على مسيلمة لكنه اختفى بعد مصرعه فى «حديقة الموت»!. واقع الحال أن كتب التراث نفسها تقدم صورتين لمسيلمة الحنفى، إحداهما صورة الرجل الذى ادعى النبوة، وثانيتهما صورة الزعيم السياسى الذى ناوأ خلافة أبى بكر الصديق، ورفض الانصياع لسلطان قريش على العرب. الصورة الأولى تساندها نصوص عديدة تجدها فى كتب التراث، أما الصورة الثانية فتجد مكوناتها متناثرة فى مجموعة من الشذرات النصية، التى تقص حكاية «مسيلمة الحنفى»، تستطيع إذا ركبتها مع بعضها البعض أن تظفر بملامحها، لتبدأ فى التفكير فى أمر هذا الرجل وتتساءل: هل كان بالفعل مدعيًا للنبوة أم زعيمًا سياسيًا كان يجد فى نفسه القدرة والأهلية لحكم العرب بعد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم؟

الاتهام بـ«ادعاء النبوة» ستار دينى على صراع سياسى عربى ضد قريش
شخصيات عديدة ادعت النبوة قبيل وبعيد وفاة النبى صلى الله عليه وسلم، من بينهم طليحة بن خويلد الأسدى، والأسود العنسى، ومسيلمة بن حبيب الحنفى، وبلغ الأمر إلى حد تنبؤ امرأة تدعى «سجاح الكاهنة»، تزوجت من مسيلمة فيما بعد. الثابت فى أكثر كتب التراث أن هذه الشخصيات زعمت لنفسها النبوة، وأذن أتباعها بنبوتهم، ونسبوا إليها نسجًا ركيكًا حاولوا من خلاله تقليد كلام الله تعالى، وأعادوا النظر فى بعض ما فرضه الإسلام، كما حدث مع مسيلمة، الذى منع السجود فى الصلاة، ثم رفع عن أتباعه صلاة الفجر والعشاء. اتهامات وسخريات كثيرة تجدها فى كتب التراث من هذه الشخصيات، وهو أمر طبيعى فى ضوء الاتجاه نحو تشويه وتقبيح ما أتته من أفعال.
من الثابت أن النسبة الغالبة من العرب ارتدت عن الإسلام بعد وفاة النبى، ولا يستطيع أحد أن يقرر على وجه الدقة هل كان الأمر فى جوهره ارتدادًا عن الدين أم عكس سعيًا من جانب شخصيات بارزة داخل عدد من القبائل العربية لمنافسة قريش على ملك العرب بعد وفاة النبى. قريش كانت حاضرة بقوة لدى واحد من أبرز مدعى النبوة وهو «مسيلمة الحنفى»، أو «مسيلمة الكذاب». ويذكر الرواة أن نعت الكذاب وصف به النبى صلى الله عليه وسلم اثنين من مدعى النبوة. هما مسيلمة بن حبيب، والأسود العنسى. فى حديث رواه أبوهريرة قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بينما أنا نائم رأيت كأنه وضع فى يدى سواران فقطعتهما فأوحى إلى فى المنام أن أنفخهما فنفختهما فطارا فأولتهما كذابين يخرجان: صاحب صنعاء وصاحب اليمامة». كذاب اليمامة وكذاب صنعاء مثّلا تهديدًا حقيقيا لدولة الخلافة، التى قادها أبوبكر بعد وفاة النبى، وقد بدأت إرهاصات هذا التهديد فى الظهور أواخر حياة النبى، وهى الفترة التى سطع فيها سؤال ملح لدى العرب جميعًا، خصوصًا من دخل منهم إلى حظيرة الإسلام، وهو «الحكم من بعد محمد لمن؟». فى هذا السياق يتجلى الطابع السياسى لصراع كل من مسيلمة «كذاب اليمامة» والعنسى «كذاب صنعاء»، مع الخليفة الأول أبى بكر الصديق.
ادعاء النبوة عكس فى جانب منه وجهًا من أوجه الصراع السياسى مع قريش التى كان العرب جميعًا يعلمون أنها سوف تستأثر بالأمر من دونهم جميعًا بعد وفاة النبى، لذا ظهر الطابع القبلى بشدة فى حكايات التراث حول مدعى النبوة. يقول ابن كثير فى البداية والنهاية: «لما توفى رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت أحياء كثيرة من الأعراب ونجم النفاق بالمدينة، وانحاز إلى مسيلمة الكذاب بنوحنيفة وخلق كثير باليمامة، والتفت على طليحة الأسدى بنو أسد وطيئ وبشر كثير أيضا وادعى النبوة أيضا كما ادعاها مسيلمة الكذاب، وعظم الخطب واشتدت الحال ونفذ الصديق جيش أسامة فقل الجند عند الصديق فطمعت كثير من الأعراب فى المدينة وراموا أن يهجموا عليها، فجعل الصديق على أنقاب المدينة حراسا يبيتون بالجيوش حولها». الواضح أنه بعد وفاة النبى بادر العديد من القبائل إلى مناوأة قريش، وكان ذلك هو السر فى التفاف رجالها حول الأشخاص الذين ادعوا النبوة. وشكّل هذا الأمر تهديدًا كبيرًا لقدرة قريش على الاستقرار على كرسى حكم العرب، فلقد أصبحت المدينة -مقرالحكم- نفسها مهددة بالاجتياح إلى حد ألجأ أبا بكر الصديق إلى تدجيجها بالحرس، تحسبًا لأى هجوم مرتقب.
ليس من السهل القبول بفكرة أن من سمع من النبى أو سمع عن النبى خلال رحلة دعوته إلى الإسلام أن يرتد عن الدين بهذه السهولة، أو ينافسه فى النبوة. وليس من المنطقى ولا المعقول أن تجمع الصدفة هذا العدد الكبير من المتنبئين فى اللحظة التاريخية الخاصة التى أعقبت وفاة النبى. مؤكد أن ثمة أسباب سياسية دفعت إلى هذا التمرد الكبير الذى اجتاح القبائل العربية التى أسلمت وأطاعت النبى. كتب التراث ذاتها تذكر أن هؤلاء المرتدين كانوا يصفون أنفسهم بالمسلمين، ومن ضمن الوقائع التى تشتمل عليها قصة ارتداد الأسود العنسى أن دولة الخلافة استخدمت المسلمين الذين كانوا يعيشون فى اليمن تحت سيطرة «العنسى» ولم ينلهم منه أى أذى، ما يعنى أن الصراع فى جوهره شكّل امتدادًا لأحداث السقيفة التى شهدت صراعًا «مكيًا مدنيًا» على الحكم. والواضح أن الكثير من القبائل العربية لم ترض عن النتيجة التى تمخضت عنها مفاوضات السقيفة بتولية أبى بكر وجعل الحكم حكرًا على قريش فاندلع هذا التمرد السياسى الكبير، الذى دمغت كتب التراث رموزه بـ«ادعاء النبوة».


«رحمان اليمامة» فى لقاء تفاوضى مع النبى قبل عامين من وفاته
مسيلمة الكذاب هو مسيلمة بن ثمامة بن كثير بن حبيب بن الحارث، ويكنى أبا ثمامة وقيل أبا هارون. ويذكر «ابن كثير» أنه كان قد تسمى بالرحمان، فكان يقال له «رحمان اليمامة». وتثبت الكثير من كتب التراث تلك الواقعة التى استوقف فيها مشركو مكة النبى لحظة إبرام صلح الحديبية، حين افتتح كتاب الصلح بعبارة: «بسم الله الرحمن الرحيم» فقال له سهيل بن عمرو والمشركون: «ما نعرف الرحمان إلا رحمان اليمامة»، ما يعنى أن عرب مكة كانوا يسمعون عن مسيلمة أيام صراعهم مع النبى. يذكر «ابن كثير» أيضًا أن مسيلمة «كان يعرف أبوابا من النيرنجات فكان يدخل البيضة إلى القارورة وهو أول من فعل ذلك، وكان يقص جناح الطير ثم يصله ويدعى أن ظبية تأتيه من الجبل فيحلب منها». ويبدو أن «ابن كثير» أراد أن ينسب إلى مسيلمة إتقان فنون السحر «النيرنجات» حتى يفسر الجماهيرية التى حظى بها بين قومه، وتمدد سمعته إلى الجزيرة العربية. فالسحر والقدرة على التمويه والتخييل من أهم أدوات التأثير على البشر، وقد نبه القرآن الكريم إلى هذا المعنى فى سياق وصفه لصراع نبى الله موسى مع فرعون مصر. كان مسيلمة شخصية معروفة ومؤثرة فى قومه، وامتد صيته إلى عرب مكة وأهل قريش. والأغلب أنه تمتع بطموحات سياسية أكثر مما انشغل بالأمور الدينية ومنافسة النبى الخاتم صلى الله عليه وسلم على النبوة. والدليل على ذلك اللقاء الذى جمع بينه وبين النبى سنة ٩ هـ. ويوصف هذا العام بـ«عام الوفود»، حين تدفقت وفود القبائل العربية على المدينة بعد فتح مكة لإعلان إسلامها. وكان السر فى ذلك التحول الذى حدث فى «البوصلة»، التى يحددون توجهاتهم طبقًا لاتجاهاتها والمتمثلة فى قريش. فإذعان قريش للنبى مثّل العامل الأهم لدخول القبائل العربية الأخرى فى الإسلام. وهو التفسير الذى طرحه «ابن كثير» نفسه فى «البداية والنهاية»، حيث يقول، نقلًا عن ابن إسحاق: «قال ابن إسحاق: وإنما كانت العرب تربص بإسلامها أمر هذا الحى من قريش، لأن قريشا كانوا إمام الناس وهاديتهم وأهل البيت والحرم وصريح ولد إسماعيل بن إبراهيم وقادة العرب، وكانت قريش هى التى نصبت الحرب لرسول الله صلى الله عليه وسلم وخلافه، فلما افتتحت مكة ودانت له قريش ودوخها الإسلام عرفت العرب أنهم لا طاقة لهم بحرب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ولا عداوته فدخلوا فى دين الله».
وقع اللقاء بين محمد صلى الله عليه وسلم ومسيلمة قبل عامين من وفاة النبى (سنة ١١هـ)، وفيه جاء وفد اليمامة إلى المدينة، وفيهم مسيلمة بن حبيب، وتشير بعض الروايات إلى أن مسيلمة كان من ضمن الوفد الذى قابل النبى، فى حين تؤكد أخرى أنه تأخر فى الركب، والتقاه النبى فيما بعد. وأيا ما كان فقد جمع لقاء بين النبى ومسيلمة، تقول الروايات إن مسيلمة حين قدم مع قومه جعل يقول: «إن جعل لى محمد الأمر من بعده اتبعته، فوقف عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: والله لو سألتنى هذا العسيب ما أعطيتكه ولئن أدبرت ليعقرنك الله». المسألة بالنسبة لمسيلمة لم تكن منافسة على النبوة قدر ما كانت سعيًا إلى وراثة الحكم من بعد محمد. ولعلك تعلم أن كثيرًا من العرب نظروا إلى رحلة النبى وكأنها رحلة بحث عن «الملك»، وهى الكلمة التى نطق بها أبوسفيان بن حرب أمام العباس بعد فتح مكة، حين قال له: «لقد أصبح ملك ابن أخيك عظيمًا»، فرد عليه العباس إنها النبوة». من الواضح أن الوصف الذى ذهب إليه أبو سفيان تبناه الكثير من العرب، ويبدو أن رؤية مسيلمة لم تخرج عن هذا الإطار، وأنه كان يبحث بالأساس عن وراثة حكم، وليس عن منافسة على نبوة. فكل ما كان يشغله أن يجعل له محمد الأمر من بعده.
تستطيع أن تتأكد من ذلك من مراجعة الرسائل المتبادلة بين مسيلمة والنبى، صلى الله عليه وسلم. فى إحداها أرسل مسيلمة إلى النبى يقول: «بسم الله الرحمن الرحيم من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام عليك أما بعد فإنى قد أشركت فى الأمر بعدك فلك المدر ولى الوبر ولكن قريشا قوم يعتدون» بدأ مسيلمة الرسالة بالبسملة، ثم حدث النبى عن رغبته فى أن يكون له حكم العرب وخلافة المسلمين من بعده، وأنه فى الوقت الذى يسيطر فيه النبى على أهل الحضر «الذين يتخذون من البنايات سكنًا» فإنه يسيطر على الأعراب أهل الوبر «الذين يتخذون من الخيام سكنًا»، ثم ظهرت الكلمة المفتاحية التى مثلت دافعًا مهمًا من دوافع تحرك مسيلمة وغيره من مدعى النبوة، كلمة «قريش» القبيلة التى دأبت على السيطرة على العرب وحكمهم. وتؤشر هذه الكلمة إلى الطابع القبلى والسياسى الذى حكم ظهور من أطلق عليهم «مدعو النبوة» أواخر حياة النبى، واشتداد أمرهم بعد وفاته صلى الله عليه وسلم. رد النبى صلى الله عليه وسلم على رسالة «مسيلمة» قائلًا: «... من محمد رسول الله إلى مسيلمة الكذاب سلام على من اتبع الهدى، أما بعد فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين». لم يفهم الكثير من العرب أن الأمر بالنسبة لمحمد نبوة ورسالة ولم يكن سعيًا نحو ملك أو رغبة فى إقامة دولة، لأن الإسلام رسالة للناس أجمعين.

وحشى بن حرب ينهى حياة المقامر الأكبر.. وخالد بن الوليد: «قبح الله أتباع مسيلمة»
فى مقابل ما تقدمه كتب التراث من وصف مستخف بشخصية «مسيلمة»، سعى إلى رسم صورة كاريكاتورية له، تتمازج فيها ملامح الساحر، مع الذكر الشهوانى مع الأفاك الذى يخدع من حوله بكلمات ساذجة تافهة تثير السخرية أكثر مما تستوجب الالتفات، إلا أنها لم تفسر لنا أسباب تلك الوقفة الصلبة والحرب الشرسة التى خاضها «مسيلمة» وأتباعه ضد الجيوش التى سيرها إليهم أبوبكر الصديق لإعادتهم إلى حظيرة «الطاعة القرشية» من جديد، وهى الحرب التى استشهد فيها الكثير من المسلمين، وشهدت واحدة من أصعب المعارك التى خاضها المسلمون فى تاريخهم الأول، وهى معركة «الحديقة».
ذكرت لك أن كتب التراث دمغت مسيلمة بـ«السحر» وإتقان «علم النيرنجات»، وقدرته على إدخال البيضة فى الزجاجة، وقص جناح الطير ثم وصله، وحلب الظبية، وغير ذلك من وقائع أرادت الروايات من خلالها التأكيد على أن مسيلمة كان «ساحرًا كذابًا». وذلك هو الملمح الأول من ملامح شخصيته. الملمح الثانى الواضح يرتبط بـ«الشهوانية» والولع بإتيان النساء. وقد أراد كتاب التراث ضرب عصفورين بحجر واحد حين ركزوا فى الحكايات التى تدلل على هذا الملمح عبر مواقف جمعت بين «مسيلمة» و«سجاح الكاهنة». والأخيرة ادعت أنها «نبية» كما تعلم، والتف حولها قومها من بنى تميم، وفكرت فى غزو اليمامة وإخضاع مسيلمة وقومه، ولما خاف قومها من مواجهة بنى حنيفة لقوتهم ومنعتهم أخذت تقول لهم: «عليكم باليمامة. دفوا دفيف الحمامة. فإنها غزوة صرامة. لا تلحقكم بعدها ملامة». من جهته كان «مسيلمة» هو الآخر يخشى المواجهة فبادر إلى صلحها، ولكى يضمن تبعيتها له عرض عليها الزواج فوافقت. ويحكى «ابن الأثير» أن مسيلمة جامع «سجاح» وهو ينشد شعرًا تحتوى أبياته على معان مخلة بالآداب، وتحمل غزلًا صريحًا فى الكاهنة، ودعوة قبيحة إلى اللقاء، فى إشارة واضحة إلى شهوانية الرجل، وقبح أخلاقياته، وعدم استتاره من المعصية، وهى إشارة لقيت رواجًا كبيرًا لدى متهمى «مسيلمة» بادعاء النبوة، من الأجيال اللاحقة التى تابعت قصته فيما بعد.
تركز روايات التراث أيضًا وهى تتعرض لشخصية «كذاب اليمامة» على التنويه إلى سخف وسذاجة العبارات، التى كان يلوكها بلسانه ويعتبرها وحيًا من عند الله. وهى عبارات فى المجمل لا تخرج إلا على لسان شخص غير طبيعى، شديد الضحالة على المستوى العقلى. يقول «ابن الأثير» فى «تاريخه»: «ضرب مسيلمة لسجاح قبة وخمرها لتذكر بطيب الريح الجماع، واجتمع بها، فقالت له: ما أوحى إليك ربك؟ فقال: ألم تر إلى ربك كيف فعل بالحبلى، أخرج منها نسمةً تسعى، بين سفاق وحشى. قالت: وماذا أيضًا؟ قال: إن الله خلق النساء أفراجًا، وجعل الرجال لهن أزواجًا، فتولج فيهن قعسًا إيلاجًا، ثم تخرجها إذا تشاء إخراجًا، فينتجن لنا سخالًا إنتاجًا. قالت: أشهد أنك نبى». تعكس العبارات التى ينسبها «ابن الأثير» لمسيلمة محاولة ساذجة لتقليد النسج القرآنى المحكم، ولا تحمل فى المجمل سوى محاولة منه لاستثارة سجاح وإقناعها بالجماع. وتقع هذه العبارات وغيرها مما ينسبه الرواة والقالة إلى «مسيلمة» فى إطار الاجتهاد فى تقديم صورة مشوهة له.
وإذا كان الأمر كذلك بالنسبة للرواة، فقد كان جد مختلف بالنسبة لقومه من بنى حنيفة الذين التفوا حوله ودعموا تمرده على دولة الخلافة القرشية التى كان يتصدرها حينذاك الخليفة الأول أبوبكر الصديق. يعزو «ابن كثير» هذا الالتفاف الأهلى حول «مسيلمة» إلى شخصية «نهار الرجال بن عنفوة». وكان «الرجال» قد جاء إلى النبى وأسلم وحفظ سورًا من القرآن وفقه فى الدين، فلما تمرد «مسيلمة» أرسل به أبوبكر إلى أهل اليمامة- وكان الرجّال منهم- يدعوهم إلى الله ويثبتهم على الإسلام فإذا به يزعم أنه سمع النبى يقول قبل وفاته إنه أشرك مسيلمة فى الأمر، فازداد التفاف أهل اليمامة حوله. تعددت الجيوش التى أرسل بها أبوبكر لتأديب «مسيلمة» وإخضاع أهل اليمامة، وفى كل مرة كانت الهزيمة من نصيب المسلمين، حدث ذلك مع جيش عكرمة بن أبى جهل وجيش شرحبيل بن حسنة. اضطر الخليفة فى النهاية إلى الاستعانة بخالد بن الوليد بعد تصفية سوء تفاهم بينهما، لكن مسيلمة وأتباعه تمكنوا من الصمود، وأخذ مسيلمة يستحثهم على القتال، قائلًا: «اليوم يوم الغيرة، اليوم إن هزمتم تستنكح النساء سبيات وينكحن غير حظيات، فقاتلوا عن أحسابكم وامنعوا نساءكم».
حميت المعركة بين الطرفين، وصمد أهل اليمامة، واحتار خالد بن الوليد فى الأمر فقرر- كما يحكى «ابن كثير»- أن يميز المهاجرين من الأنصار من الأعراب وكل بنى أب على رايتهم يقاتلون تحتها حتى يعرف الناس من أين يؤتون. وصبرت الصحابة فى هذا الموطن صبرا لم يعهد مثله ولايزالون يتقدمون إلى نحور عدوهم حتى فتح الله عليهم وولى الكفار الأدبار واتبعوهم يقتلون فى أقفائهم ويضعون السيوف فى رقابهم حيث شاءوا حتى ألجأوهم إلى حديقة الموت. حاصر خالد «مسيلمة» وأتباعه داخل الحديقة حتى تمكن البراء بن مالك من تسورها واقتحامها وفتح الباب ليدخل منه المسلمون وأعملوا سيوفهم ورماحهم فى أتباع «مسيلمة» حتى خلصوا إليه. وإذا هو واقف فى ثلمة جدار كأنه جمل أورق وهو يريد يتساند لا يعقل من الغيظ وكان إذا اعتراه شيطانه أزبد حتى يخرج الزبد من شدقيه فتقدم إليه وحشى بن حرب، مولى جبير بن مطعم، قاتل حمزة، فرماه بحربته فأصابه وخرجت من الجانب الآخر وسارع إليه أبودجانة، سماك بن خرشة فضربه بالسيف». وتنتهى قصة «مسيلمة» بمشهد وقف فيه خالد بن الوليد أمام: رجل أصفر أخنس فقال هذا صاحبكم، فقال خالد قبحكم الله على اتباعكم هذا.