رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز
رئيس مجلسى الإدارة والتحرير
محمد الباز

رسائل هيكل وأحمد بهاء الدين إلى جمال حمدان

جمال حمدان
جمال حمدان

فى زمن الصغار يطل علينا جمال حمدان بكبريائه وشموخه وحضوره الأسطورى، إطلالة ليست فى صالحنا، لأنها تفضحنا وتعرينا، وتكشف لنا ما آلت إليه الأحوال وقامات الرجال بعده، بل إن المقارنة نفسها لا تجوز، بين رجل حقيقى وبين هؤلاء المزيفين.
تؤكد الأيام عظمة هذا الرجل وعبقريته ووطنيته وإخلاصه وقيمته، وتؤكد فى المقابل تقصيرنا بحقه إلى حد الجريمة.
لقد كان محقًا بلا أدنى ذرة من غرور أو قطرة من نرجسية عندما كتب عن نفسه: «لو كان جمال حمدان أوروبيًا أو أمريكيًا لتحولت مقولاته إلى مزامير تتلى صباح مساء، ولكانت مقولاته ورؤاه الاستراتيجية عنوانًا عريضًا لدى معظم الباحثين ومراكز الدراسات»، وكأنه كان ينبه ويتنبأ بما سنرتكبه فى حقه.
هل تعرف ماذا فعلنا بصاحب «شخصية مصر»؟
فور رحيل جمال حمدان سارع صاحب الشقة التى كان يستأجرها فى شارع أمين الرافعى بحى الدقى، إلى إخلائها لاستردادها، وأمام هذا الهدف التافه، قام بإلقاء مقتنيات جمال حمدان فى الشارع، ملابسه وأحذيته والأوسمة وشهادات التقدير التى حصل عليها، محليًا ودوليًا، وأثاثه المتواضع وما وصلت إليه يداه من أوراقه وحاولت أسرته وأصدقاؤه إنقاذ ما يمكن إنقاذه.
يهل فبراير وتهل معه ذكرى هذا العقل الجبار الذى لم ندرك قيمته بعد، هذا المفكر الاستراتيجى الذى أوقف عمره على دراسة الشخصية المصرية، وتحديد وتحليل هويتها وبيان عظمتها وتفردها استنادًا إلى حقائق التاريخ والجغرافيا.
ولم يعد ممكنًا ولا مقبولًا، أن تفهم تاريخ هذا البلد ومستقبله دون أن تمر ببوابة جمال حمدان وكتبه ودراساته وتحليلاته ومقولاته، بل تظل نبوءاته صالحة دومًا تثبتها الأيام وكأنه «نوستراداموس العرب»، فكان أول من تنبأ بسقوط الاتحاد السوفيتى، وكان أول من تنبأ بأحداث دراماتيكية يشهدها العالم العربى بسبب الأنظمة الاستبدادية، وهو ما عرف بالربيع العربى، وعندما تتابع الآن تطورات المواجهة العسكرية بين سوريا وإسرائيل تتذكر ما قاله جمال حمدان قبل أكثر من ربع قرن: «إذا لم تكن حرب إسرائيل السادسة مع مصر، فقد تكون مع سوريا، وإذا كانت مع سوريا، فقد تكون السابعة مع مصر».
وكما أدهشنا بكتابه القيم «شخصية مصر»، فإن دهشتنا متصلة أمام شخصية جمال حمدان نفسه، ولا بد أن تتوقف طويلًا عند تلك القوة النفسية الجبارة والإرادة الحديدية التى لا يقدر عليها إلا أولو العزم من أصحاب الرسالات، التى جعلته يختار طوعًا حياة قاسية من الزهد، ويفرض على نفسه عزلة كاملة، ويتفرغ لإنجاز دراساته وأبحاثه، وكأنه جاء إلى الدنيا لينير لنا الطريق ويدلنا على ما نجهل.. ويرحل!
لا أجد وصفًا لجمال حمدان أصدق من «المعتزل»، فقد اعتزل الأضواء والمناصب والمال والنساء ومتع الحياة، واختار أن يعيش زاهدًا فى محراب العلم، حتى يمكنه إنجاز ما أمكنه وأتاحه له العمر: ٢٩ كتابًا و٧٩ بحثًا.
والوثيقة التى نعرضها فى هذه الحلقة، تقدم دليلًا ناصعًا على زهد جمال حمدان واعتزاله للأضواء وهروبه منها، وما ننشره هنا لأول مرة قد يبدو من القراءة السطحية مجرد رسالة شخصية من كاتب كبير إلى عالم جليل، لكن بقليل من التأمل تدرك أنها أعمق من ذلك وأهم وأخطر.
وهذه الرسالة النادرة - هى للأمانة - من مقتنيات صديقنا الباحث والمؤرخ الشاب شهدى عطية، وأرسلها كاتبنا الكبير أحمد بهاء الدين وقت أن كان رئيسًا لمجلس إدارة «دار الهلال» إلى جمال حمدان، ويمكن من خلال مضمونها أن نفهم وندرك ما تحمله من إشارات ودلائل.

السكن والزهد والعبقرية والميلاد والنهاية المأساوية.. ٥ أوجه تشابه بين «الزاهد» و«المعتزل»
قبل أن ننشر نص الرسالة، لا بد أن نشير إلى تلك المقارنة المدهشة التى نبهنى إليها شهدى عطية بين بهاء وحمدان، وتلك الصفات القدرية والبشرية العجيبة التى ربطتهما، فتشعر أنها لم تكن صدفة أبدًا، بل هى مقادير الله.
الاثنان من أبناء (فبراير)، ولد جمال حمدان فى الرابع منه (١٩٢٨)، وجاء بهاء إلى الدنيا فى الحادى عشر منه (١٩٢٧)، فهما من مواليد الشهر نفسه، ولا يفصل بينهما سوى أسبوع وسنة.
جمعتهما جيرة السكن، فكانا من سكان الحى نفسه (الدقى)، بهاء فى شارع هارون، وحمدان فى شارع أمين الرافعى.
وجمعهما الزهد والترفع وعزة النفس والسمو الإنسانى عن صراعات الدنيا وصغائرها.. جمال حمدان كان مضرب الأمثال ولا يزال، فاستقال فى عام ١٩٦٣ من وظيفته المرموقة كأستاذ فى جامعة القاهرة، ومرشح لعمادة كلية الآداب ولمناصب رفيعة لو أراد، ليتفرغ كلية لأبحاثه ودراساته، راهبًا فى الحياة والعلم.. وأما بهاء فرغم أنه احتل مناصب مرموقة فى الصحافة المصرية رئيسًا لتحرير مطبوعات ورئيسًا لمجالس إدارات مؤسسات، إلا أنه طوال الوقت كان يشعر أن المناصب كانت عبئًا عليه ككاتب ومفكر، وأخذت منه ولم تضف إليه، وقال مرة: «فى إحدى أزماتى مع السلطة قلت لممثل السلطة إن الثورة - يوليو - لها أفضال على أناس كثيرين ربما كانوا لا يستحقون، ولكن الثورة لا فضل لها علىّ بالمعنى الشخصى، فإيمانى بها مجرد من النفع، ذلك أننى توليت أكبر منصب يفكر فيه صحفى، وأعلى مرتب قبل تأميم الصحافة وبقوانين السوق الحرة، ومارست ذلك حتى زهدت فيه، وما أريد سوى أن أكون كاتبًا، لأننى أعتقد أن لقب كاتب أو محرر هو أعلى لقب فى الصحافة».
جمعهما النبوغ العقلى وعبقرية الفكر والرؤية الثاقبة المشغولة دومًا بالهم الوطنى، فكانت مصر بعمقها العربى وبعدوّها المباشر (إسرائيل الصهيونية)، الهم الأول والأخير والشغل الشاغل للرجلين، هو محور كتابتهما وكتبهما وتفكيرهما، وكانت لهما فيه رؤية كاملة ثاقبة ونبوءات صائبة، فجمال حمدان مثلًا توقع العدوان الإسرائيلى فى ٥ يونيو وحذر منه فى مقال كتبه بمجلة (الهلال) قبل النكسة بعام، وقرع الأجراس عاليًا: «ليس السؤال هل تهجم إسرائيل، وإنما متى وأين وكيف؟!.. الاحتمال الأول أن تبادر إسرائيل فتعجل بهجومها، على أمل أن تسبق استعداد العرب عسكريًا للمعركة، وبذلك تضمن فرصة أكبر للنصر.. إن إسرائيل ستحارب فى كل الجبهات فى نفس الوقت، وهذا تمامًا عكس استراتيجيتها التقليدية». وقد حدث ما تنبأ به بالضبط، وكأنه كان يقرأ من كتاب مفتوح.. خذلته السياسة فى زمن عبدالناصر إبان نكسة ١٩٦٧ مثلما خذلته وأوجعته فى زمن السادات فى كامب ديفيد، فكتب محبطًا: «إن حركة التاريخ دائمة ولكن اتجاهها ليس ثابتًا، وكان عهدنا بها أن تكون إلى الأمام خطوتين وإلى الوراء خطوة، ولعلنا نرى الآن بعدًا مغايرًا وحركة إلى الأسفل، نحن نشهد انقلابًا، لأنه كان بين السكان من لم يُقدر ولم يرع حرمة وحق المكان».
ومثله كان أحمد بهاء الدين كالصارخ فى البرية، يكشف مخططات ومؤامرات الكيان والفكر الصهيونى، وكان وحده الأكثر وجعًا وإدراكًا لعملية تهجير اليهود السوفيت إلى فلسطين عام ١٩٩٠ فيما أسماه (جريمة العصر)، وكتب يحذر وينبه إلى تأثيراتها الكارثية، ولكنه كصاحبه خذلته السياسة.. وخذله المثقفون!
وجمعتهما كذلك النهاية المأساوية، ففى ١٧ أبريل ١٩٩٣ مات جمال حمدان فى واقعة عبثية ما زال يكتنفها الغموض والريبة، وأكرر على أنها حادثة مريبة وغامضة، لأن كل المؤشرات والأدلة تقول وتؤكد إن الحريق الذى شبّ بشقة جمال حمدان فى ذلك اليوم المشئوم، تم بفعل فاعل وبتدبير محكم، بدليل أن النيران لم تقترب إلا من جسده، ولم تطل أوراقه التى اختفى كثير منها، فقد كان المجرم يبحث عن أوراق بعينها تخص دراسات وأبحاثًا جديدة لجمال حمدان، كان واضحًا أنها خطيرة ومقلقة لجهات بعينها. وكان السياسى ورئيس المخابرات الأسبق الراحل أمين هويدى الأجرأ والأوضح عندما وجه اتهامًا مباشرًا للموساد باغتيال جمال حمدان.. (فهل آن الأوان لفتح ملف القضية من جديد للبحث عن الحقيقة الغائبة؟!).
وأما نهاية أحمد بهاء الدين فلم تكن أقل مأساوية وشجنًا، فقد أرهقته معركة (جريمة العصر) واستنزفته عصبيًا ونفسيًا وبدنيًا، ولم يستطع عقله أن يتحمل ويستوعب ما يجرى، وفى يوم الجمعة ٢٣ من فبراير ١٩٩٠ (فبراير من جديد) أصيب بانفجار فى المخ، وأصبح بعده غائبًا عن الدنيا، ودخل فى شرنقة من الصمت إلى أن غادر الحياة فى ٢٤ من أغسطس ١٩٩٦، بعد ست سنوات من العذاب عاشها محبوه!

بهاء لصاحب «شخصية مصر»: دراستك عن النكسة أطول من مقال
نأتى إلى تلك الرسالةالوثيقة التى كتبها بهاء (الزاهد) إلى حمدان (المعتزل) ويقول نصها:
«الأخ العزيز الدكتور جمال حمدان.. تحياتى إليك وأرجو أن تكون بخير.. الواقع أن المقال الذى تفضلت بإرساله، على قيمته الممتازة، إلا أنه من حيث طوله يتحدى أى إمكانية للنشر فى صحيفة، ولم يكن هذا رأيى ولكن بعد أن تداولنا بين الرغبة فى نشره وعدم إمكانية ذلك، خصوصًا وقد جاء قبيل المناسبة بأيام قليلة جدًا.. ثم إن تراسلك معى بالبريد يخلق صعوبة أخرى!.. لو أنك سألتنى بالحضور - أو حتى تليفونيًا - قبل كتابته لتداولنا فى الأمر ووصلنا إلى صيغة ملائمة، ولو كان عندى طريق سهل للاتصال الشخصى بك لتداولت معك بعد تسلمه مباشرة فى إمكانية استخراج أجزاء منه تصلح لمقالات منفصلة، فهو بهذه الصيغة المتكاملة كتيب ممتاز أو يناسب مجلة مثل شئون فلسطينية مثلًا.
على أننى أعتقد أن الكثير مما فيه ليس رهن مناسبة ٥ يونيو، فنحن على أى حال نعيش فى ظل الموقف والأسئلة المطروحة باستمرار.
واقتراحى أنه يمكن استخراج أجزاء منه، كل جزء يكوّن نقطة مستقلة ومتكاملة تنشر فى مقال مستقل أو أن ينشر كاملًا فى إحدى المجلات المناسبة.
ومرة أخرى، أكرر أنه حبذا لو أمكن فى المستقبل أن يكون حوارنا حول هذه الأمور مباشرًا، لا تبخل بالزيارة حتى بدون سبب، ولا أحتاج أن أؤكد لك هذا أبدًا، فما بالك إذا كان هناك سبب.. ولك أطيب تحياتى: أحمد بهاء الدين.. ملحوظة: إذا كان مكتبى بعيدًا فبيتى قريب: ١١ شارع هارون الدور الخامس شقة ١٤ (ت ٩٨٢٤٦٣) بهاء».. هذا نص الرسالة كما كتبها بهاء بالحرف، ويمكننا أن نخرج منها بعدة ملاحظات ومعلومات.
زمن الرسالة يعود إلى الأعوام التى تلت نكسة يونيو، ويمكننا أن نستشف أنها كانت فى الذكرى الأولى أو الثانية لهزيمة ١٩٦٧، وحينها بادر جمال حمدان بكتابة دراسة مطولة عن رؤيته لما حدث، وأرسلها عبر البريد إلى أحمد بهاء الدين الذى كان وقتها يرأس مجلس إدارة دار الهلال ورئاسة تحرير «المصور»، وكانت الدراسة من الطول بحيث لا يمكن نشرها كمقال، وهو ما دعا بهاء إلى أن يرسل هذه الرسالة إلى جمال حمدان يرجوه التواصل معه للاتفاق على الشكل الصحفى الأمثل ويدعوه لزيارته، سواء فى مكتبه بالدار أو فى منزله القريب بحى الدقى.
من بين سطور الرسالة نستشف بوضوح، التقدير البالغ الذى كان يحمله بهاء لحمدان ومعرفته لقيمته وقامته.. وهو تقدير كان يجمع عليه كل من عرف حمدان وقرأ له وأدرك نبوغه وعبقريته، يكفى ما قاله عنه هيكل: «إنه عالم فذ قد ظهر فى آفاق الفكر العربى كطائر العنقاء الأسطورى»، وما كتبه عنه أنيس منصور: «إنه فيلسوف الجغرافيا والشاهد على عبقرية مصر»، وما قاله عنه محمود أمين العالم فى كتابه «شخصية مصر»: «يثبت جمال حمدان أنه عاشق عظيم لمصر وعاشق عظيم للحقيقة.. إنه يقدم بهذا الكتاب سدًا جديدًا لمصر فى مواجهة محاولات شتى لهدم روحها والقضاء على شخصيتها القومية».. ولم يكن جمال حمدان ينتظر هذا الإطراء، فقد ارتضى أن يعمل فى صمت وبلا ضجيج «أو فى عزلة صوفية بتعبير أمين العالم»، ولا ينتظر من أحد جزاء ولا شكورًا.

الأستاذ: لم أتجاسر أن أطرق بابك على غير موعد
الحق أن بهاء لم يكن وحده الذى يعانى من صعوبة، بل استحالة الوصول والتواصل مع د. جمال حمدان كما تشى رسالته، ففى تلك السنوات كان العالم الجليل قد اتخذ قراره بالعزلة والاعتزال ومقاطعة الحياة العامة والتفرغ لدراساته، وهو ما تؤكده رسالة أخرى كتبها إليه الأستاذ هيكل، وكانت من بين الأوراق التى أهداها اللواء عبدالعظيم حمدان إلى مكتبة الإسكندرية تخص شقيقه بعد رحيله.
يقول نص رسالة هيكل المكتوبة على أوراقه الرسمية.
«القاهرة فى ٢٨ مايو ١٩٧٩
عزيزى الدكتور جمال حمدان.. لم أتجاسر هذه المرة أن أطرق بابك على غير موعد، وهكذا فإنى أكتب إليك لأقول إننا عدنا إلى القاهرة بعد غياب عدة أسابيع، وكما اتفقنا قبل أن أسافر فإنى أترك لك اختيار الوقت الذى تراه مناسبًا لكى نلتقى مرة أخرى، ولست أعرف ما هى المواعيد المناسبة لك فى الأسبوع القادم الذى يبدأ من السبت الأول من يونيو؟ لكنه سوف يسعدنى إلى أبعد حد أن أسمع منك. ومع التحية أرجوك أن تقبل صادق الود والتقدير.. التوقيع محمد حسنين هيكل».
فحتى هيكل بكل سطوته ونفوذه وبريقه و«طاووسيته»، لم يكن له استثناء من القاعدة الصارمة التى فرضها جمال حمدان على الجميع: من يرده فعليه التوجه إلى بابه ويترك له رسالة بها هوية الزائر ومطلبه، وعليه أن ينتظر الرد من صاحب «شخصية مصر» فى الوقت الذى يحدده هو، هذا إذا تفضل بالرد أصلًا!
كان الجميع يسعى إلى هذا النحيف المعتزل الذى كان «أعظم من استخرج الحقائق من الخرائط»، وأعظم من كتب عن «شخصية مصر»، وأعظم علماء الجغرافيا العرب فى القرن العشرين وربما لقرون قادمة، وصاحب المقولة الجامعة «أينما تكونوا تدرككم الجغرافيا».. أما هو فكان مشغولًا ومسكونًا بعشق وحيد لوطن منحه الله عبقرية المكان.